كانت المعرفة وستبقى محددا أساسيا لكينونة الانسان ووجوده النفسي والاجتماعي، لكن تطور الحياة البشرية رفع اليوم من تأثير الفكرة، وجعلها من أقدر أدوات التغيير وأكثرها فعالية . والنظر الى التطور الجذري الذي لحق تقنيات الاتصال في زمننا الراهن، لابد أن يخلص الى أن البشرية مقبلة في قادم الأيام والسنين على تحولات نوعية ستشمل مختلف بنياتها وقواعد انتظامها، فضلا عن قيمها وأعرافها وأذواقها. ومثل هذا التحول النوعي، الذي ذوب الحواجز المكانية وقارب بين المسافات الجغرافية الفاصلة بين الشعوب، لابد أن يجعل من المعرفة نقطة ارتكاز لهذا الفضاء التواصلي الذي يتمدد وينفتح على الكرة الأرضية بكامل أقطارها. وفي هذا السياق الباحث عن ماهية وملامح هذا التحول الجديد الذي ارتسم في حياة الانسان المعاصر يرى الكثير من الباحثين مثل بيتر دراكر، و رودولف ستيشوي وميشيل كارتيي أن البشرية قد شهدت اليوم ميلاد نمط مجتمعي جديد هو “مجتمع المعرفة”، يؤشر على لحظة انتقال وتحول.





بيد أن السؤال الذي يطرح هل معنى هذا أن المجتمعات القديمة لم تكن مجتمعات معرفة؟ هل معنى لفظ الانتقال هذا أن المعرفة لم تكن تشكل من قبل عنصرا مكونا في البناء المجتمعي؟





ان عبارة “الانتقال الى مجتمع المعرفة” تحتاج بلا شك الى ايضاح لمدلولها حتى لا تلتبس المعاني. ولعله من باب تكرار البداهات القول بأن المعرفة كانت دوما قاعدة السلوك والبناء في المجتمع البشري وعنصرا مكونا في عملية التشكيل النفسي والثقافي للفرد والجماعة. بصرف النظر عن طبيعة تلك المعرفة وقيمتها ونوعيتها. فالمجتمع الانساني يتمايز بمحض طبيعته عن المجتمع الحيواني بكونه لا يسلك تلقائيا وفق صوت الغريزة، بل له رؤيته المعرفية والقيمية التي يوجه بها نفسه، ويُنَمْذِجُ بها أساليب الاستجابة الى حاجاته الغريزية. وهذا الفارق الملحوظ بين المجتمعين الحيواني والبشري يؤكد بلا ريب حضور المعرفة في الاجتماع الانساني، كيفما كانت درجة تطوره. وهذا ما تؤكده الملاحظات الأنثروبلوجية في مقاربتها لأنماط الاجتماع، حتى تلك التي تنعت بالبدائية.





لكن صواب هذه الملحوظة لا يعني خطأ الكلام عن وجود انتقال الى مجتمع المعرفة، بل ان الحديث عن هذا الانتقال له ما يبرره ويؤكده. فلو رجعنا الى صيرورة انتقال البشرية ولحظات تطورها يمكن القول انه منذ اختراع المطبعة وشيوع الكتاب أخذت البشرية تشهد ظاهرة انتشار أوسع للمعرفة. حيث تكاثرت الكتب وتمدد حقل تداولها. ومنذ تحول المعرفة العلمية الى معرفة تقنية، وتجسدت الفكرة في الآلة، أخذت تبرز بوضوح تلك المقولة الديكارتية الناظرة الى المعرفة بوصفها “قوة” وهي ذات المقولة التي ستتكرر مع فرنسيس بيكون في القرن السابع عشر، ثم لاحقا مع نيتشه في نهاية القرن التاسع عشر.





وفي القرن العشرين، ومع ظهور صناعة الحاسوب وتقنية الاتصال أصبحت المعرفة موضوعا للتداول على نحو أوسع وأكثر كثافة. وهذا التحول هو ما جعل البعض يشير الى وجود نقلة نوعية وليست مجرد فعل تراكمي. فالمفكر الأمريكي بيتر دراكر يشير في كتابه “مجتمع ما بعد الرأسمالية” الصادر عام 1993 الى أن التحول التاريخي الذي يعتمل اليوم في الواقع العالمي تحول جذري ينقل البشرية الى الانتظام وفق نمط مجتمعي جديد بالقياس على سابقه من الأنماط، هو نمط “مجتمع المعرفة”.





ودلالة مفهوم “التحول النوعي” والايقاع الزمني الناظم لحدوثه، كان قد أوضحهما دراكر من قبل في العديد من كتبه منها كتابه “الواقع الجديد” الذي أصدره سنة ،1989 وسواء في هذا الكتاب أو غيره يميل هذا الباحث الأمريكي الى تقطيع الصيرورة التاريخية، والوقوف عند لحظات منتقاة على نحو لا يخلو من اعتساف ! وكمثال على هذا الاعتساف في تأويل التاريخ نحيل هنا على مقدمة كتابه “مجتمع ما بعد الرأسمالية”، حيث يشير الى أنه تقريبا في كل خمسين أو ستين سنة يحدث في سياق التاريخ الغربي انفصال أو قطيعة، انفصال يصل الى حد تغيير النظرة الى العالم وتبديل القيم الأساسية والنظم الاجتماعية والآداب والمؤسسات!! ثم يستدل دراكر على وجود هذه التحولات المفصلية في صيرورة التاريخ الأوروبي، بالتقاط أحداث ووقائع تدل عليها . لكن الحاصل من تأملي في نظريته هو أنها لا تخلو من اعتساف على لحظات التاريخ وافتعال في تقطيعها وتعليبها . فالتاريخ لا تنتظم صيرورته وفق عقارب الساعة، حتى اذا وصل العَدُّ الى خمسين أو ستين سنة يقفز قفزة نوعية جذرية تصل الى حد تغيير النظرة الى العالم وقلب القيم الأساسية كما يزعم دراكر انما ايقاع التاريخ هو ان كان بالفعل ينتظم بمنطق الصيرورة والتطور فإنني أعتقد انه ليس معلبا في تجاويف أرقام محددة .





صحيح ان دراكر يحاول التخفيف من قالبية رؤيته لكنه حتى بذلك لم يتحرر من الانزلاق في وهم امكان تعليب التاريخ البشري في اطارات زمنية محددة، وهو الوهم ذاته الذي سقطت فيه الكثير من فلسفات التاريخ، مثل فلسفة أوجست كونت التي حقبته الى مراحل ثلاث، أو الرؤية الماركسية التي قولبت التاريخ الأوروبي في اطار نظرية “المادية التاريخية” الى خمس مراحل! ثم ذهبت عن الامساك بصيرورة تواريخ الشعوب غير الأوروبية فاضطرت الى ابتداع نظرية “نمط الانتاج الآسيوي”.





لكن بعد هذا النقد الذي نستهدف منه الاحتراس من تلقي التحقيب الزمني الذي قدمه دراكر، أو غيره من المنظرين المسكونين بنزوع تعليب التاريخ في نماذج قبلية جاهزة، ثمة فائدة مهمة نراه قد أشار اليها، وأكدها قبله العديد من المفكرين، وهي النظر الى الواقع البشري الراهن بكونه آخذا في تجذير نمط حياتي نوعي، تحتل فيه المعرفة مرتبة الأولوية في سلم أدوات الانتاج.





لكن السؤال الذي بإمكانه أن يفتح مجالا أمام التفكير النقدي هو أي نوع من المعرفة هذا الذي يشيع ويتداول في واقع البشرية اليوم؟ أي نوع من المعرفة هذا الذي يتم تأسيس المجتمع المعاصر على أساسه؟ أليس السائد هو نمط من المعرفة التقنية التشييئية