اللغــة‏..‏ مســألة أمن قومي
بقلم : محمد عبدالعزيز شنب

لا جدال في أن اللغة تمثل جانبا من ملامح الشخصية‏,‏ كما أنها أيضا تعتبر احدي ركائز الانتماء الوطني‏,‏ وهي بشكل عام تمثل أفقا يضم الوعي الانساني بالزمان والمكان‏,‏ اضافة إلي انها تتسع لخبرات الوطن‏,‏ وتجاربه‏,‏ وعلاقاته بالأخرين‏.‏

لقد تعرضت اللغة العربية في السنوات الأخيرة لكثير من الاهمال‏,‏ وقد حظيت بقدركبير من الحزن‏,‏ من جراء تركها خارج الاهتمام‏,‏ فاذا صرخت فصراخها غير مسموع‏,‏ وإذا بكت فبكاؤها لا يثير الشفقة‏,‏ وسط اهتمام المجتمع باللغة الانجليزية‏,‏ التي اصبحت في واجهة الصورة‏,‏ وفي بؤرة الوعي الوطني‏.‏

ومن المفيد ان يتعلم الانسان أكثر من لغة‏,‏ لكي يتعرف علي ثقافات الاخرين ويستفيد من تجاربهم ولكن عليه قبل ذلك ان يهتم بلغته أولا‏,‏ وان يتقنها وان يوظفها في أمور حياته‏,‏ لكن الواقع يقول ان الاهتمام باللغة العربية صار قليلا‏,‏ وان الاهتمام بالانجليزية أصبح واضحا للعيان فقد حصلت علي مساحات كبيرة من النشاط اليومي علي حساب لغتنا العربية التي أخذت تتواري تدريجيا عن المشهد اليومي وهذا لن يضيرها‏,‏ فاللغة العربية قوية في ذاتها سواء لقيت اهتماما‏,‏ أو لقيت اهمالا‏,‏ لكن فقدها لمساحات من أرضها برغم التحذيرات المتوالية‏,‏ يضرب في الشخصية المصرية ويدمر التاريخ الثقافي للوطن ونكون بازاء خطر داهم‏,‏ لا يمثل خطرا لوعي الانسان فقط ولكن يعتبر مساسا بالأمن القومي‏.‏

ان تاريخ لغتنا العربية يشير الي قوتها قبل وبعد ظهور الاسلام‏,‏ وقد أكسبها القرآن الكريم حياة جديدة‏,‏ في كل بلد أشرقت فيه شمس الاسلام‏,‏ وهو ما حدث عند دخول الاسلام مصر‏,‏ لقد اتسعت اللغة العربية لضروب المعرفة الانسانية‏,‏ وأحاطت بفلسفات العالم كله‏,‏ وثقافات اليونان والفرس والهند والصين‏,‏ وقد نهض الأزهر الشريف بدوره في الحفاظ عليها‏,‏ كما كانت هناك جهود كثيرة في هذا المجال‏,‏ من أبرزها انشاء علي مبارك لمدرسة دار العلوم والتي تحولت فيما بعد الي كلية دار العلوم‏,‏

وقد شهدت اللغة فيها اهتماما كبيرا‏.‏ ولقد شهد للغة العربية كثيرون ومنهم المستشرق الألماني نولدكة والذي قال‏:‏ان الخطأ الشائع ان نظن ان اللغة العربية فقيرة لا تصلح لبحث الأمور المعنوية‏,‏ فعلي العكس يندر ان نجد لغة اخري كاللغة العربية تصلح لأن تكون وسيلة للتعبير عن الفلسفات القديمة‏,‏ وأصول حكمة الأولين وقد صدق نولدكة فيما قال فقد وسعت اللغة العربية كل ما ترجم اليها في العصر العباسي‏,‏ من الفلسفة والحكمة والطب والكيمياء والمنطق والفلك وكثير من العلوم الاخري ولهذا صارت صاحبة السيادة في ذلك العصر‏,‏ ويجب علينا ان نعمل جاهدين لكي تظل صاحبة السيادة ونحاف ظ عليها كما يحافظ الاخرون علي لغاتهم‏,‏ كالانجليز والفرنسيين والألمان‏;‏ علي سبيل المثال وليس الحصر‏.‏

والمؤسف ان لغتنا العربية أصبحت مصدرا للخوف والانزعاج‏,‏ بسبب لها في يحدث كان الثانوية العامة فالأسئلة صعبة‏,‏ والنتيجة بكاء ودموع‏,‏ وأحزان للأسرة المصرية‏,‏ التي انفقت الملايين من الجنيهات علي الدروس الخصوصية‏.‏ ويعجب المرء من هذا المشهد فهناك اهتمام بالغ باللغة العربية كامتحان‏,‏ وطريق الي حصة درجات من أجل الذهاب إلي الجامعة‏,‏ وهناك اهمال بالغ لها في الشارع المصري‏,‏ فمثلا في داخل الفصل فالفاعل مرفوع والمفعول منصوب وفي خارج الفصل أي من الشارع المصري فالفاعل يمكن ان يكون منصوبا‏,‏ والمفعول يمكن ان يكون مرفوعا‏,‏ في الشارع يمكن لأي انسان ان يحطم عظام النحو‏,‏ فلن ينزعج احد ولن يلتفت انسان ولن يندهش مخلوق وهذا أمر خطير فاذا كنا نهتم بلغتنا في الفصل بكل هذه الدرجة‏,‏ فلماذا لانهتم بها ايضا في الشارع؟ لماذا لانحافظ عليها؟ لماذا لا نوليها قدرها ونجعلها في صدارة الآهتمام مثلما كانت في السنين الماضية؟

ان لغتنا العربية هي لغة العصر‏,‏ وكل عصر‏,‏ وهي لغة غنية‏,‏ لها حدائقها وأشجارها‏,‏ وأنهارها‏,‏ لها أرضها‏,‏ وديارها‏,‏ لها وطنها‏,‏ لكنها في هذا الوطن فقدت بعضا من أملاكها‏,‏ وأصبحت الانجليزية تمشي في الشارع المصري في خيلاء‏,‏ ينهال عليها الابتسام وينهمر عليها الترحيب‏,‏ وأصبحت تنتزع مساحات من اللغة العربية‏,‏ لقد أصبحت الانجليزية في بؤرة اهتمام المجتمع‏,‏ لقد اسكناها في أفخر الفنادق المطلة علي النيل‏,‏ بينما لغتنا العربية اصبحت تسكن في مسكن شعبي‏,‏ تنقطع عنه الكهرباء‏,‏ وينقطع الماء‏,‏ في معظم أوقات النهار‏,‏ انظر هنا أو هناك‏,‏ فستجد أكثر من عنوان باللغة الانجليزية‏,‏ والشارع المصري خير شاهد علي هذا‏,‏ فمعظم واجهات المحال باللغة الانجليزية حتي بعض العمران الجديد مكتوب بالانجليزية لقد أصبحت هناك في الشارع المصري كلمات بالانجليزية‏,‏ كثيرة التداول منها ـ علي سبيل المثال لا الحصر ـ سوبرماركت‏,‏ الميكروباص‏,‏ هموم‏,‏ سيتي‏,‏ هاوس‏,‏ كار‏,‏ ترافل‏,‏ فيوتشر‏,‏ استريت‏,‏ جرين‏,‏ بيويتفول‏,‏ لاند‏,‏ بيتش‏,‏

سكاي وخطورة هذه المسألة ان هذه الكلمات وغيرها كثير أصبحت بالتداول ومرور الوقت جزءا اساسيا من لغة الخطاب اليو مي بين الناس‏,‏ وأصبحت تسكن بقوة في الوعي‏,‏ والادراك خاصة عند الاطفال وهو أمربالغ الخطورة‏,‏ وسوف تزداد خطورته في المستقبل وقد يأتي يوم تصبح الحلول فيه صعبة ولذا فانه يجب علي كل المؤسسات المهتمة باللغة العربية ان تبادر إلي الاهتمام باللغة‏,‏ لكي تعود لها صدراتها قبل ان تتعقد الأمور‏.‏

إن اللغة العربية هي لغتنا‏,‏ وواجبنا ان نجعلها في صدارة المشهد‏,‏ وان تكون صاحبة السيادة وان تكون لها السلطة الأولي والأخيرة في تشكيل وعي المواطن‏,‏ خاصة انها غنية بألفاظها‏,‏ ومعانيها‏,‏ واستعاراتها‏,‏ وتشبيهاتها‏,‏ والحفاظ عليها يعتبر حفاظا علي شخصية المواطن‏,‏ أما إهمالها‏,‏وعدم الاهتمام بها‏,‏ فإن هذا يعتبر مساسا بالأمن القومي‏.