كل من يقرأ فى ديوان الشعر الحلمنتيشى لابد أن تنتابه هستيريا الضحك،كونه قد صيغ من تلك التتعبيرات الكاريكاتيرية الضاحكة،على أن تلك الضحكات والابتسامات ليست هي جوهر هذا الشعر ذاته،أو بتعبير أدق ليست هي الغاية فيه.
ذلك أن هذا اللون من الشعر يحارب فى الميادين الحياتية من اقتصاد وسياسة واجتماع،وهو بذلك لا يقف عند عواصف الضحك التى ترسلها تعبيراته وكلماته.
ولتكن البداية من نافلة القول السابق.
فى أحد أعياد الفطر،كان الشاعر المرحوم /كامل الشناوى قد دعا عددا" من أصحابه وعشاق فكاهته وشعره،وذلك إلى عشاء بأحد الفنادق الكبيرة بالقاهرة،وكان ذلك حوالى العام <1963>
وفى هذه الليلة وكعادته كان ينشد الشعر،ويرتجل كلاما" جميلا" عن الحب،وكأنما أراد آن تنفتح شهية مدعويه على الطعام والشراب .
ثم هو قد اخرج ورقة"وقلما"وبدأ يكتب،والكل فى انتظار أن يفرغ من كتابته،ثم يستمعون إلى ماكتبه.
إلا أن ماكتبه هذه المرة لم يكن فى الحب كسابق المرات،ولكنها كانت معارضة صارخة وساخرة لقصيدة لأمير الشعراء احمد شوقى فى وداع رمضان،وجاءت بهذا المطلع الشهير:
رمضان ولى هاتها ياساقى
مشتاقة تسعى إلى مشتاق
فانشد كامل الشناوى ردا"،وتعريضا"على ذلك:
جئنا إليك فهاتها ياساقى
كأسا"من الكونياك غير دهاق
الأصدقاء على حسابى أسرفوا
فى الشرب وانتفخوا على إملاقي
لابأس قد جاعوا فهات غذاءهم
لحما" وغذ القلب بالأشواق
الله يرزقنا وإياهم كما.....
رزق الطير تحوم فى الأفاق
فكن الكريم إذا الصحاب تكأكأوا
وأصنع عزومة فتة ورقاق
لولا الهوى لم نستطب كاساتنا
أبدا"،ولم نشرب على الإطلاق
فى صحة المحبوب أرشف رشفة"
تمحو سموم الهجر كالترياق..
فما كان من المدعوين إلا الصياح ابتهاجا" بتلك القصيدة <العصماء>،البعض ظن إنها شعرا"حقيقيا"،والبعض القليل هو الذي فهم أنها شعرا" هزليا"،استنادا"إلى أن كثير منهم كان من غير الشعراء أو الأدباء.
مما حدا بكامل الشناوى أن ينور تلك الفئة ،بالحديث عن الشعر الهزلى الفكاهى ودوره فى الصحافة المصرية،وقد بدأ فى إلقاء بعض القصائد من هذه النوعية عليهم لتقريب تلك الوجهة إليهم.
ربما كان كامل الشناوى هو اّخر المجيدين فى هذه النوعية من الشعر إلى جانب شعره الجاد،فقد سبقه كثير ،لعل أقربهم إليه والى عصره الشاعر<محمد مصطفى حمام>وله بعض الشعر المنشور،وان كان البعض منه أيضا" غير منشور.
يقال أن هذا الشاعر<حمام>كان اّية فى خفة الظل،وطلاقة اللسان،وصياغة الفكاهة الذكية شعرا" ونثرا"،إذ كانت الفكاهة هي إحدى صناعاته يتكسب منها أحيانا"،ثم يفارقها ولايمارسها إلا للتسرية عن نفسه وأصدقائه.
كان دائم الافلاس،دائم الحاجة الى المال،فقد كان ينفق بلا عقل،أحيانا" يحصل على المال بسهولة،أحيانا" لايحصل عليه الا بالمشقة،وفى بعض الأحايين لا يحصل عليه الا بمعجزة،وعبر كل هذه الأحوال كان ينفق بلا عقل وبلا مبالاة.
ذات يوم..قهره الافلاس،وسدت امامه كل المنافذ،فجلس مع بعض زملائه فى نقابة الصحفيين،وهو يضحك تارة ويغنى طورا"أخرى،كان صوته اقرب الى الطرب،فى قدرة على اّداء الألحان،وعندما فرغ من هذا العزف الذاتى ،نظر الى اصحابه وهو يقول:ماعاد يحزننى فى الدنيا سوى معاملة سائقى التاكسى،ولىّ بالذات،فقد عرفونى جميعا"،عرفوا اننى اذا ركبت مع احدهم أعتذر عن دفع الأجرة،فهاهم لايقفون لىّ كلما أشرت لأحدهم بالوقوف،ووصلت بهم الحال أنهم اذا رأونى مقبلا" الى موقفهم،يبدأون بالهروب،أعقب ذلك تلك الضحكة الرنانة التى كانت تميزه او يمتاز بها ،نابعة عن روحه الطلقة،ثم أردف:
لقد دخل سائقو التاكسى التاريخ اليوم بعد اذ نظمت فيهم أبيات.
هذه الأبيات التى يتحدث عنها <حمام>ماهى الا القصيدة الاعتراضية لامير الشعراء والتى مطلعها:
أما العتاب فبالأحبة اخلق
والحب يصلح بالعتاب ويصدق
قال حمام:
أما الفلوس فبالأحبة أخلق
والقرش أقرب للفؤاد وألصق
لم يبقى فى جيبى سوى تعريفة
والله يمنح من يشاء ويرزق
لما قصدت البنك أطلب سلفة"
قالوا:ابتعد فالبنك لا يتصدق
هل من كريم ارتجيه لورطتى
سمح اليدين إلى المكارم يسبق
فإذا سألت بريزة من فيضه
ألقيت بحر برائز يتدفق
شاورت للتاكسي أريد ركوبه
فمضى يبرطع كالحمار وينهق
السائقون دروا إفلاسي فما
يقفون لى وأنا أشير وأزعق
وختم <حمام>قصيدته وهو يكاد لايصلب طوله ضحكا"، ثم ينشد قصيدة أخرى عن القروض،وأهميتها لديه فقال:
قد دارنا الإفلاس بالتسليف
واشترينا به غموس الرغيف
لانبالى إذا القروض توالت
كبسة الصيف أو هجوم الخريف
لقد توفى حمام قبل كامل الشناوى بفترة وجيزة،ولم يبق بعدهما فارسا" من فرسان هذه النوعية من الشعر،ذلك لتعلق نظمه بالنشر فى الصحف الفكاهية وقتها..فأين هذه الصحف الاّن..؟؟
ولكن متى بدا الشعر الفكاهى فى الظهور..؟؟
الشعر الفكاهى العربى يبدو باديا"من زمن بعيد،وفى تلك الأهاجى الحادة المقذعة،والتي كان من عادة الأقدمين أن يرسموا فيها تلك الصور الكاريكاتيرية المضحكة.
ودواوين الشعر الأموي والعباسي،تزخر بتلك النوعية،خاصة فى دواوين الشعر الهجائية<جرير-الفرزدق- الأخطل-ابن الرومي-ابن لنكك..وغيرهم>.
أيضا" صورة أخرى من نوعية هذا الشعر،نجدها فى هجاء صاحب الشعر لنفسه،وتصويره أحواله فى صورة هازلة ضاحكة،ولعل المثل الأقرب لهذه النوعية نتق عليها كثيرا" فى شعر ابن أبى دلامة.
ولون ثالث من هذه النوعية،وهى الصورة البعيدة عن الهدف فى النوعين السابقين،شعر يقال فى الهزل لمجرد الهزل ليس إلا،كقول شاعر:
إذا ذهب الحمار بأم عمر
فلا رجعت ولارجع الحمار
إلا انه وبعد انطفاء جذوة الشعر العربي في بغداد والعواصم العربية الأخرى،فقد كثر الشعر الهزلى والفكاهى وراج.
فمثلا" يروى عن الشاعر المصري شهاب الدين أحمد المنصورى المتوفى فى أواخر القرن الخامس عشر أنه لما بلغ الخامسة والسبعين من العمر قال:
بلغت من دنياى سنا" بها
وقعت فى السبعين والخمس
فالحمد لله الكريم الذي
متعنى بالسن والضرس
وبعد أن عاش اكثر من ثمانين عاما"،أصيب بالشلل،فأملى على أولاده هذه الأبيات:
آه يادرهمى ويادينارى
ضعت بين الطبيب والعطار
قد حمانى الطبيب عن شهواتى
فاحم يارب قلبه بالنار
طال شوقى إلى الفواكه والبطيخ
والجبن واللبن والخيار
ضاع لبى على مقاساة لب القرع
والهندبا وبذر الشهار...
قد يطول بنا الحديث، عن الشعر الهزلى الفكاهى،فى العصر المملوكى،أو العثماني،ففي العصر العثماني-إذ أن به-يصعب فى مواضع كثيرة استبيان ماذا كان الشعر جادا" أو هزليا" فى قصيدة واحدة،فكأنما أردنا بذلك أن نبين أنه فى هذا العصر بالذات قد أصبح الشعر الجاد أشبه بالشعر الهزلى..وبذلك يمكن القول تخصيصا" عند هذا المفرق فى عرض الموضوع أن البذور الأولى من الشعر الهزلى الفكاهى الناضج بهذا التوصيف إنما كان بالعصر المملوكى،ثم استكمل موسم نضوجه فيما والاه من العصر العثماني.
إلى أن بقذفنا التاريخ من حيث بدأ الموضوع عن الافتتاحية بكامل الشناوى ومحمد حمام.
من النماذج:
..........لحسين شفيق المصري:
الحب اخرج مقلتي بصباعه
وأذاب قلبى باللهيب بتاعه
سار الوابور إلى بلاد أحبتى
ياليتنى متشعبط بذراعه
ومن أقوال عن السياسة:
ليس الحياة من الوقاح فضيلة
بل يستحى الإنسان ممن يستحى
وأخجل من الأشراف ولكن أين هم
لم يبق من شرف ولاشرفنطح
قال ينتقد الأحوال الاقتصادية،وصعوبة الحصول على وظيفة:
أفتش فى الديوان عن واحد له
نفوذ لتوظيفى وفكرى موزع
يقولون لى: هل من وسيط تجيبه
شفاعته عند الحكومة تنفع؟
فهل كان الليسانس لما أخذتها
شهادة تطعيم بها أتسكع؟
أليس حراما" أننى بشهادتي
أدور على أبوابكم أتوكع
وغيره علشان محسوبكم متوظف
أراه عليكم دائما" يتدلع
ولو لم يكن محسوبكم كان حقه
يكون حمارا" أزرقا" يتبردع..
المفضلات