هذه أدلة مثل الأدلة التي أشرنا إليها، واضحة الدلالة يستدل بها على أن الأعمال من مسمى الإيمان، ويستدل بها على أن الإيمان يزيد وينقص، ويستدل بها على أن أهل الإيمان يتفاوتون، فالدليل الأول: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (
الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) .
والشعبة: هي القطعة من الشيء، إذا رأيته متشعبا في هذا شعبة، وفي هذا شعبة، وفي هذا شعبة، يعني قِطَع فإذا اجتمع وتواصل صار كله إيمانا.
من هذا الحديث انطلقت أفكار العلماء في ذِكر شعَب الإيمان، وأخذوا يعددونها ويذكرون ما وصل إليهم، أوسع من كتب في ذلك البيهقي العالم المشهور، له كتاب مطبوع في نحو سبعة مجلدات اسمه: "شعب الإيمان" استوفى فيه ما وصل إليه من الأحاديث التي تتعلق بالإيمان.
وكتب في ذلك -أيضا- بعض العلماء رسالة مختصرة في شعب الإيمان أوصلها إلى سبع وسبعين خصلة، بدأها بالتوحيد أخذا من هذا الحديث:
أعلاها قول: لا إله إلا الله. .. 
وختمها بالأعمال التي فيها نفع للغير، ومنها إماطة الأذى عن الطريق. وفيما بين ذلك ذكر: الصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصدقات التطوعات من الإيمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصِدْق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الخلق، ورد السلام، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتِّباع الجنائز -مثلا- وكذلك إكرام الضيف، وإحسان الجوار والرفق بالمملوك، وأخذ يعدد من هذا حتى وصل إلى سبع وسبعين خصلة، رسالة مطبوعة مستقلة صغيرة عنوانها: "شعب الإيمان" كأنه أراد أن يطبق هذا الحديث.
وهذا -بلا شك- رد صريح على فقهاء الحنفية الذين يجعلون الإيمان: هو التصديق فقط، ويجعلون الأعمال خارجة عن مسماه، ويجعلون الإيمان اسما لعمل القلب فقط، أو ليقين القلب فقط، ويقولون: إن الأعمال ثمرة من ثمراته، والصحيح أن الأعمال داخلة في اسم إيمان، وأنها من جملة الإيمان، كما سماها في هذا الحديث وقسمها.
" الإيمان ": يعني خصال الإيمان، شعب الإيمان. وبكل حال متى استوفى المسلم هذه الخصال وعمل بها سميناه مؤمنا كامل الإيمان، وإذا نقص منها قلنا: ناقص الإيمان، مؤمن ناقص الإيمان.
والخلاف هنا مع المعتزلة ومع الخوارج: فالمعتزلة بمجرد ما يترك خصلة من خصال الإيمان، يفعل معصية، يخرجونه من الإيمان، ولا يدخلونه في الكفر، بل يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، هذا في الدنيا. وأما في الآخرة: فيخلدونه في النار، ويقولون: لا نحكم عليه بالكفر في الدنيا بحيث يقتل أو يسبى أو يسلب ماله، لا … بل نقول: لا مؤمن ولا كافر، بينهما.
أما الخوارج فيقولون: كافر، مجرد ما ارتكب ذنبا وترك طاعة خرج من الإيمان، وحل دمه وماله. هذا معتقد الخوارج.
وأما أهل السنة فيقولون: إنه مؤمن، ولكن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، يسمونه مؤمنا، ولكن مع الإيمان يتصف بالفسق، لا مانع أن نقول: مؤمن فاسق، أو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.
لكن هنا مشكل: دليل استدل به المعتزلة ونحوهم، الحديث الذي في الصحيحين: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبة يرفع الناس إليها بها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ) كيف نجيب عن هذا الحديث؟ فإنه نفى عنه الإيمان.
لا شك أن الجواب عنه هو أن نقول كما يقول بعضهم: إن المراد: الإيمان الكامل، لا يؤمن الإيمان الكامل، بل معه إيمان ناقص، أو (
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) يعني: أنه ليس معه الإيمان الذي يحجزه عن المعاصي، بل إيمانه مضطرب ومختل.
بعض الشراح يقولون: إن الإيمان يخرج منه، ويصير عليه كالظُلة مادام ملامسا المعصية، ما دام يزني، فالإيمان صار عليه كالظلة، أو مادام يسرق، يحاول السرقة، ما دام سكران، يشرب الخمر وعليه آثارها، فالإيمان عليه كالظُلة، فإذا أقلع عن المعصية أو انتهت المعصية رجع إليه الإيمان، ولكن لا يرجع إليها سالما، بل يرجع إليه مختلا وناقصا، وبكل حال دليل واضح على أن أهل الإيمان يتفاوتون.
وأما أدلة زيادته: فذكر منها ابن قدامة -كما سمعنا- بعض الأدلة كقوله: (
فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا ) (
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا ) (
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ) .
هذه أدلة على الزيادة لكن هل هناك أدلة على أن الإيمان ينقص؟ .
يقولون: كل شيء يقبل الزيادة فإنه يقبل النقص، فمثلا: هذا الكأس يقبل الزيادة الآن من الماء، ويقبل النقص، إذا أهريق الماء الذي فيه أو بعضه نقص الماء الذي فيه، فكذلك القلب، تتوارد عليه الأدلة وتتوارد عليه الأعمال فيزيد، ثم يذهب بعضها فينقص، تأتيه شبهة فتنقص اليقين الذي فيه فيبقى ناقصا.
ومن الأدلة أيضا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (
يخرج من النار من كان في قلبه دينار من إيمان، ثم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال بُرّة من إيمان، ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان، ومن كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) أليس هذا دليلا على التفاوت؟ بعضهم مثقال دينار، قطعة من الذهب، وبعضهم مثقال خردلة، حبة صغيرة معروفة.
مثقال خردلة أو مثقال ذرة دليل على أنهم يتفاوتون، هذا أنقص من هذا، وهذا أزيد من هذا، فدل على أنهم يتفاوتون.
ومما استدلوا به أيضا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- مخاطبا النساء في خطبته يوم العيد: (
ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي اللب من إحداكن، قلْنَ وما نقصان ديننا؟ قال: أليس إذا حاضت المرأة لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟ فذلك من نقصان دينها ) .
فجعل تركها الصلاة -وإن كانت معذورة- نقصا في دينها، فالرجل يزيد عليها بصلاته في تلك المدة، فدل على أن الإيمان يزيد بالطاعة، بالصلاة وبالصيام ونحوها، وينقص بترك الصلاة أو بترك الصيام وما أشبهه.
وعلى كل حال إذا عرفنا الأصل، وهو أن أهل السنة قالوا: إن المؤمنين يتفاوتون، فنقول: إنهم لا يُكَفِّرُون بالذنوب، بل يَعْذُرُون العاصي، ويقولون: إنه مؤمن، ولكنه فاسق أو عاص، ولو عمل أي عمل، ما لم يكن ذلك العمل مُخْرِجا من الملة.
والأحاديث التي أطلق فيها الكفر على بعض الأعمال يقال: إنه كفر عملي، مثل: قوله:
اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة 
.
معلوم أن هذه لا تصل إلى الكفر الذي هو الكفر بالله، والذي يبيح الدم والمال، ولكنه كفر عملي، فيه شيء من التكذيب لبعض الشريعة.
والأحاديث التي فيها الوعيد على بعض الخصال تسمى: أحاديث الوعيد، تجرى على ظاهرها؛ لتكون أبلغ في الزجر، مع العلم بأنها لا تُخرِج من الملّة، ولو كان ظاهرها فيه الإخراج من الملة.
فإذا سمعنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية 
هل نقول: هذا ليس من المسلمين؟ ما عمل إلا هذا العمل، هل خرج بذلك من الإيمان؟.
هذا من أحاديث الوعيد، نعتقد أنها لا تخرج من الملة، ولكن نتركه على ظاهره ليكون أبلغ في الزجْر.
وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-:
من غشنا فليس منا
من عقد لحيته، أو تقلد وتْرا، أو استنجى برجيع دابة، فإن محمدا بريء منه
بريء منه 
هل يكون معناه: أنه خرج من الدين؟ تذكرون…هذه الأحاديث كثيرة؛ ولذلك الإمام مسلم -رحمه الله- بدأ بكتاب الإيمان، وأورد فيه مثل هذه الأحاديث التي فيها إشكال، وأمرك بأن تقول فيها برأيك، وأن تعترف بما تتضمنه.
وفيها -بلا شك- الدلالة على أن الإيمان يتفاوت، ولو لم يكن إلا مثل: قوله -صلى الله عليه وسلم-:
من رأى منكم منكرا فليغيرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان 
أليس فيه دليل على أن الإيمان يتفاوت؟ أن هنا إيمانا ضعيفا؟.
كل هذا رد على الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد، وإن نقصانه ذهابٌ له.
ومن أراد التوسع في هذا يقرأ ما كتبه العلماء في ذلك وتوسعوا فيه، وأوسع من كتب في ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية في كتاب "الإيمان" مجلد كبير، طبع في المجلد السابع من "مجموع الفتاوى" ومطبوع أيضا مفردا.
وكذلك كتاب الإيمان في "صحيح البخاري". كتاب الإيمان في "صحيح مسلم". وفي أكثر كتب المحُدِّثين.
وكذلك كتب مستقلة: كتاب "الإيمان" لابن أبي شيبة صاحب "المصنَّف". كتاب "الإيمان" لأبي عبيد القاسم بن سلام اللغوي. كتاب "الإيمان" لابن منده. وكلها مطبوعة ميسرة. نعم.
المفضلات