لا تأكلوا الخبز بالجبن؟!
بقلم: السيد حسين العزازي
وكيل وزارة سابق بالكهرباء والطاقة
الجبن بضم الجيم وسكون الباء منتج غذائي مصدره اللبن.. cheese ولا ندعو لعدم تناوله إلا إذا ثبت تعرضه للغش مما يجعله ضارا بالصحة وما نعنيه في هذا السياق "الجبن" بفتح الجيم وضم الباء "coward" وهو نقيض الجراءة والشجاعة ومن يتصفون به لا ينتصرون للحق ولا يقولون الحقيقة ويعانون الانفصامية بين ما يريدونه ولا يدركونه وما يفرض عليهم فلا يرفضونه وليس منا من يولد جبانا أو يسعي إليه اختيارا بل هو مروود بيئة مفرغة من القيم تدفع علي الكذب والممالأة ولا تحث علي الصدق أو تبشر به وفي أبجديات التربية ان الإنسان ابن بيئته إلا من رحم ربي واستنقذه من الضلال.
يقول المولي عز وجل: ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون.. وفي الحديث الشريف: الساكت عن الحق شيطان أخرس وفي قول آخر: أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
ومفاد ذلك ان يملك الفرد شجاعة المصارحة وفضيلة المكاشفة فيما لا يقتضي الستر والسكوت خاصة إذا اتصل بأمن الناس وكرامتهم أو تعلق باستقرارهم وراحتهم وليس أسوأ من الكذب والخداع والنفاق لتحقيق منفعة أو تحصيل مكسب رخيص مقابل السكوت علي ظلم أو حيف يمارس في حق الفرد أو الجماعة.
والجبان يستخدم سلبيته في تمرير مصلحته وهو أشبه باللص الذي يتسلل في الخفاء ليسلب غيره فضلا عن صمته المشين وعزلته المزرية حيال الاحداث والمواقف اذ ينأي عن المشاركة ولا يبدي رأيا ويسدي جهدا أو مشورة وأمثال هؤلاء كم مهمل أو كثرة كغثاء السيل لا تسفر إلا عن سراب.
ولقد خلفت عصور القهر والتسلط ضربا من الجبن المبرر بدعوي تأمين الرزق للفرد ومن يعول خاصة إذا ارتبط دخله بالعمل تحت قبضة ظالم شخص أو مؤسسة أو نظاما ولقد استقر هذا المسلك لدي الكثيرين بعدما شاهدوا وعايشوا من اضيروا وعذبوا بسبب مجاهرتهم بالحق ووقوفهم في وجه الظلم فأطيح بهم وعذبوا وشردوا وأصابهم وذويهم بلاء عظيم بينما اشتمل الخوف سواهم إلي حد الخرس والتوجس "الحيطان لها ودان".
وتلك سمة تنتشر وتستشري في دول العالم الثالث حيث تغيب العدالة الاجتماعية ولا توجد سوي الديمقراطية الصورية التي تحمل شكلا بلا مضمون وشعارا بلا قرار وسيقانا بلا جذور فهي خاوية واهية وفي ظل هذه الأنظمة المزيفة ينتشر داء "الجبن" والوهن ويعشش الخوف في الصدور ويفرخ في العقول اللامبالاة ويرتد علي الشخصية بالانطواء والهروب وافتقاد القدرة علي الصدق مع النفس وبدلا من الحوار والتفاعل يشيع الهمز واللمز والتعليق الخافت وتبرير "التقية" إذ تظهر خلاف ما تضمر ويصير القول ضداً للقصد وفي الاتجاه الذي يحفظ علي المرء حياته تحت أي اعتبار.
وفي ظل هذا المناخ تنزوي المعارضة الهادفة ويتجمد النقد ولا يتواجد الرأي الآخر بكل ما يتضمنه من ثراء ودعم لقضايا الفكر والبناء وأي أمة هذا شأنها يتحدد مسارها ومصيرها في القابضين علي السلطة دون سواهم لكونهم يملكون ويحكمون ويحاكمون ولا يسمحون لسواهم بالاقتراب من منطقة القرار بالاعتراض أو طلب الحذف أو الاضافة ولهذا يتقزم التشريع ويصير أدني من قبول الجماعة والتزامها ويتحول إلي فرض يلقي الرفض وما يستتبعه من خرق أو مروق وعدم الامتثال له أو التمسك به وبعد المسافة بين تطبيقه وتحقيقه.
ان محاصرة الجبناء لا تتأتي بعقباهم بل جذبهم إلي دائرة "الوثوق" وامتصاص مسببات الخوف الكامن فيهم واستبدالها بشحنات الجرأة والقدرة علي المواجهة وتأهيلهم للانخراط في الجماعة والتعامل معها بوضوح دونما التباس أو احتباس أو التفاف وقد يكون ذلك في مقدمة واجبات ومسئولية الدعاة والمربين مدعومة بممارسات الحكام حيال المحكومين وكفالة الأمن للناس في معايشهم وأقواتهم وعدم مساومتهم علي استحقاقاتهم ووضع معايير أخلاقية وإنسانية تصون الحريات وتحفظ الامانات وترد لكل ذي حق حقه ولا تدع للنفاق مجالا بل تحضه بإعلاء شأن المخلصين الصادقين وبما يسهم في إعداد أجيال واعدة بما تملكه من مقومات الرقي والسمو والنجاح.
لقد حاقت بنا الهزيمة يوم ان كان بيننا من يقول "كله تمام" وتأخرت مسيرة الديمقراطية لان الذين يتكلمون عنها لا يعملون بها ولا يسعون لنشرها خشية المساس بمصالحهم وعلي هذا فهم يقولون ما لا يفعلون وصدق الله العظيم "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون" وستظل الديمقراطية معني بلا مبني ولسنوات عديدة قادمة يعلم الله مداها حتي نتحول بها من النظرية إلي الواقع ومن التعليق إلي التطبيق وستبدو اثار ذلك في درجة الإصلاح ومستوي التطوير وملامح التغيير التي ستجسد ذلك وتترجمه.
وإذا كان المأثور "قل الحق ولو علي نفسك" "وان الحق أحق ان يتبع" فمجال ذلك مواطنون أسوياء بلا عقد أو مركبات نقص ولديهم مواطنة نابضة وانتماء صادق يتواجد فيهم بحكم تكوينهم وتربيتهم وحسن معاملتهم والاهتمام بأمرهم فلا شيء يوجد من فراغ ولأجل ذلك يجب ترضيخ رسالة المؤسسات الدعوية ثقافيا وسياسيا بالتوازي مع المنظمات الاقتصادية والاجتماعية لتهيئة بيئة صحية مواتية للمواطن الصالح المبرأ من الحقد والضغينة والمؤسس علي الخير والفضيلة والذي يضخ نشاطه الايجابي في شرايين الحياة ليصوغ بها طاقة بناء ونماء ورخاء وإذا كان الوطن وعاء فإن محتواه مواطنين يفرزون فيه مخرجاتهم وينضحون عليه حلوهم ومرهم.
إن مبدأ تكلم ولا تخف أو عبر عن رأيك أو شاركنا بمشورتك أو نحن نسمعك يجب ان يزدهر من خلال التحام الحكام بالمحكومين والرؤساء بالمرءوسين والمديرين بالعاملين عبر كل المستويات وفي كل الاتجاهات وان تنشط كأسلوب تربوي له قواعده وأدبياته في دور العلم ومنابر التثقيف وان نتعلم كيف نعارض بأدب وموضوعية لاستكمال النقص وتجاوز الخطأ واستيفاء جوانب الإصلاح وألا يداخل ذلك أدني حساسية أو غضب وعندما نصل إلي هذا المستوي نكون بحق قد نجحنا في اقتلاع جذور الجبن وغرسنا بذور الشجاعة وأسسنا لأرضية الكرامة فيما بيننا وفي نظر الآخرين لنا ولنكون علي بينة ان أغلب المصريين خارج الوطن يعملون بهمة أكبر وبذل أكثر وان الذين يتكلمون منهم يستفيضون ويستطردون بينما هم بيننا صامتون أو مراوغون ولعل الإجابة تعطي الافادة فمن غراس القهر ينبت الجبن ومن بذور العدل يخرج الصدق ويتلاقح الأمل بالعمل.