سبوبة إنفلونزا الخنازير
"لازم نحلب الحدث لآخر قطرة".. كان هذا هو رد أحد الصحفيين عندما لامه أحد زملاؤه على استمرار وسيلته الإعلامية في تأجيج الأمور بين دولتي مصر والجزائر، على الرغم من الاتجاه الرسمي نحو التهدئة بكلا البلدين. مع الفارق، فإن حالة الهلع والفزع التي خلقتها منظمة الصحة العالمية بخصوص إنفلونزا الخنازير، تمثل نوعا آخر من الحلب يستهدف خزانة الدول، من أجل الترويج لعقار "التامفلو" المعالج للمرض، ومن بعده اللقاح الخاص به.
والمفارقة أن الإعلام كان لاعبا رئيسيا أيضا، كما حدث في الحالة الأولى، وإن اختلف الغرض وشريحة المستفيدين.


فإذا كان في قضية مصر والجزائر يسير وفق سياسة عامة ترسمها الوسيلة الإعلامية بهدف جذب عدد أكبر من المشاهدين، ومن ثم تحقيق رواج دعائي وإعلاني، فإن الأمر فيما يتعلق بإنفلونزا الخنازير يقف وراءه عدد محدود من اللاعبين يحصلون على مزايا مادية وعينية من شركات الدواء، ومهمتهم الأساسية هي "التهويل".

وكشف د.صادق عبد العال مستشار وزير الصحة المصري السابق في تصريحات لـ"إسلام أون لاين.نت" عن تفاصيل هذه العلاقة، والتي تشارك فيها منظمة الصحة العالمية بدور الداعم الرئيسي.
ويوضح د.عبد العال أن "التهويل" ينتقل من شركات الدواء إلى وسائل الإعلام، وتصبغ منظمة الصحة العالمية شرعية على ذلك، بتأكيد ما أوردته شركات الأدوية.
وفضحت تصريحات نشرت -مؤخرا-على لسان فولفغانغ فوودراغ رئيس لجنة الصحة بالبرلمان الأوروبي هذه العلاقة، حيث اتهم فيها منظمة الصحة العالمية بالاستجابة لموجة "التهويل" التي خلقتها شركات الدواء بسبب علاقات مشبوهة بين مسئولين بالمنظمة وشركات الدواء.
وأعلن فوودراغ في تصريحه المثير أن الاتحاد الأوروبي وافق على فتح تحقيق بناء على طلبه لمعرفة من الذي قرر بالمنظمة تصنيف إنفلونزا الخنازير على أنها وباء، ورفع درجة خطورتها.
بعد خراب مالطا
وأعطى تصنيف "وباء" الذي أصبغته منظمة الصحة العالمية على إنفلونزا الخنازير المبرر لشركات الدواء للإسراع في إنتاج اللقاح بشكل تجاري في وقت يقارب الشهرين وإعطائه للجماهير الغفيرة في شتى بقاع العالم، مخالفة بذلك برتوكولات إنتاج اللقاحات التي تحدد تدرجا في إجراء الاختبارات على اللقاحات بما قد يمتد لسنوات، من أجل الاطمئنان التام لسلامتها، لكن نفس البروتوكولات تستثني حالات الوباء العالمي من تلك الإجراءات المطولة.
وبرغم سعادة د.عبد العال بهذا التصريح، الذي يدعم وجهة نظره التي أعلنها أكثر من مرة في وسائل الإعلام حول خدعة إنفلونزا الخنازير، فإنه في نفس الوقت حزين لتأخره، إذ جاء "بعد خراب مالطا" على حد قوله.
ويقصد د.عبد العال من الربط بين التصريح وهذا المثل الشعبي، الإشارة إلى حجم الأرباح التي حققتها شركات الدواء، سواء من بيع عقار "التامفلو" ومن بعدة اللقاح، والتي كان من الممكن أن تتقلص لو صدر عن رئيس اللجنة الصحية مبكرا.
وكانت عملاق صناعة الأدوية السويسرية "نوفارتس" قد حققت صافي أرباح خلال الربع الثالث من العام الماضي 2009 وصل إلى 2.11 مليار دولار، بسبب مبيعات لقاح إنفلونزا الخنازير، ومن قبلها حققت ولا تزال الشركات المنتجة لعقار التامفلو أرباحا قياسية.
ويتساءل د.عبد العال: أين وسائل الإعلام من تصريح فوودراغ، وما تبعه من تصريحات نسبت لفضيلة شايب المتحدثة الرسمية باسم منظمة الصحة العالمية، والتي قالت فيها إن منظمة الصحة العالمية ستجري تقييما شاملا لسياستها بخصوص إنفلونزا الخنازير، ردا على الانتقادات الشديدة التي وجهت إليها من اللجنة الأوروبية.
ناقل الكفر
الدكتورة سحر طلعت أستاذة علم الأمراض بجامعة القاهرة افترضت حسن النية لدى القائمين على وسائل الإعلام؛ ولأن "ناقل الكفر ليس بكافر" أوضحت د.سحر أنهم ينقلون توجهات المسئولين عن وزارات الصحة، فعندما يرفعون من نغمة التهويل، ينقلون هم بدورهم ذلك إلى الجمهور.
وتسخر أستاذ علم الأمراض من البيانات التي كانت تصدرها على سبيل المثال وزارة الصحة المصرية وتنقلها الصحف، والخاصة بوفيات إنفلونزا الخنازير كل يوم، وتقول: "ألا يعلمون أن الوفيات بالإنفلونزا العادية، يمكن أن تكون أضعاف هذه الأرقام".
وتلوم د.سحر على بعض الأطباء الذين شاركوا في بث حالة الرعب والفزع من خلال تصريحاتهم بوسائل الإعلام، لكنها تضع علامة استفهام كبيرة حول علاقة بعضهم بشركات الدواء، والتي قد تجعلهم يصدرون هذه التصريحات التي تصب في النهاية بصالح هذه الشركات.
ولا تجد أستاذة علم الأمراض دليلا أفضل من التشجيع الذي أخذه لقاح إنفلونزا الخنازير على لسانهم، برغم أن مادة "السيكوالين" التي تدخل في تصنيعه تحوم حولها الشبهات.
ويؤكد هذه الرؤية التي خلصت إليها أن الأبحاث التي نشرت مؤخرا للتأكيد على أن هذه المادة آمنة، كانت من تمويل شركات الدواء، وهو ما يقلل من مصداقيتها، ويؤكد حقيقة أصبحت معلومة للجميع وهي أن: "كل شيء قابل للشراء عند شركات الدواء".
دوائر متداخلة
وإذا كان كل شيء قابل للشراء عند شركات الدواء، فلماذا نستبعد الإعلام؟
هذا التساؤل الذي طرحه د.صفوت العالم أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، هو في الحقيقة يحوي ضمنيا رؤيته والتي تنطوي على اتهام لقلة من القائمين على وسائل الإعلام.
ويستثني د.العالم من اتهامه مندوبي الأخبار في الوزارات والهيئات الحكومية ممن يقومون بدور "ناقل الكفر" الذي أشارت إليه د.سحر.
لكن من يصنعون "الكفر" ذاته هم من كانوا يرفعون نغمة "التهويل" من حين لآخر بتقارير محركها الأساسي شركات الدواء.
وتسير العلاقة بين هؤلاء الإعلاميين وشركات الدواء، كما يوضح د.العالم، وفق دوائر متداخلة، فأحيانا تنتقل المعلومة إليهم عبر وسطاء من الأطباء يرتبطون بمصالح مع الشركات، وفي هذه الحالة تكون مصلحة الإعلامي مع الطبيب.
وفي أحيان أخرى تنتقل المعلومة من شركات الدواء إلى الإعلاميين مباشرة، ويكون استضافة بعض الأطباء الذين يرتبطون بمصالح مع هذه الشركات في التقارير التي تتناول هذه المعلومة هو نوع من إضفاء المصداقية عليها.
وبمتابعة دقيقة لما تنشره وسائل الإعلام تتضح هذه الدوائر المتداخلة، ليس فقط في موضوع إنفلونزا الخنازير.
ويضرب د.العالم مثالا بالأخبار المنسوبة لبعض الأطباء عن فوائد الشاي والتي يكون وراءها شركات إنتاج الشاي، ثم ما نلبث أن نقرأ بعد فترة خبرا منسوبا لطبيب آخر عن تسببه في رفع ضغط الدم، ويكون وراءه شركات أخرى منتجة لمشروبات منافسة.
وسواء كان الإعلام يقوم بدور فعال وأساسي في "سبوبة" إنفلونزا الخنازير عن قصد وعمد كما أكد د.العالم، ومن قبله د.عبد العال، أو بحسن نية كما تفترض د.سحر، فإنه في كل الأحوال مدان؛ لأن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة.

المصدر / اسلام اونلاين