حفيد الفراعنه
07-07-2009, 05:45 PM
لقد اقتفى الصحابة رضي الله عنهم أجمعين سنة المصطفى { ولم يبالغوا في مسألة الشعر، بل كانوا قمة في الاعتدال، فقد اهتموا به، ولكنه لم يشغلهم عن ما هو أهم، وكانوا يحفظون أولادهم الشعر لما للشعر والأدب من تأثير بليغ في التربية والتهذيب، فقد كتب عمر رضي الله عنه إلى ساكني الأمصار: "أما بعد فعلموا أولادكم العلوم والفروسية، وَروُّوهُم ما سار من المثل، وحَسُنَ من الشعر"(29).
وبعث أيضاً إلى أبي موسى الأشعري برسالة قال فيها: "مُرْ من قِبَلِك بتعلم الشعر، فإنه يحل عقدة اللسان، ويشجع قلب الجبان، ويطلق يد البخيل، ويحض على الخلق الجميل"(30).
نفي القرآن عن النبي { أن يكون شاعراً:
المتأمل للآيات الواردة في الشعر والشعراء يجد أنها أتت في معرض الذب عن الرسول {، ونفي الشعر عما أوحاه الله إليه؛ لأن الشعر بطبيعة الحال يتنافى مع طبيعة الرسالة والوحي، وقال تعالى: وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين 69 {يس: 69}.
وقال تعالى: إنه لقول رسول كريم 40 وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون 41 ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون 42 تنزيل من رب العالمين 43 {الحاقة: 40 - 43}.
وقد زعم كفار مكة أن هذا القرآن شعر، وأن محمداً شاعر قال تعالى: بل قالوا أضغاث أحلام بل \فتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون 5 {الأنبياء: 5}.
وقال تعالى: فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون 29 أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون 30 قل تربصوا فإني معكم من المتربصين 31 {الطور: 29 - 31}.
فالله تبارك وتعالى يبين أنه ماعلَّم نبيه الشعر وما علمناه الشعر وما ينبغي له 69 {يس: 69} قال ابن كثير: "أي ما هو في طبعه فلا يحسنه، ولا يحبه، ولا تقتضيه جبلته، ولهذا ورد أنه { كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم، بل إن أنشده زحفه، أو لم يتمه".
ثم قال: "وثبت في الصحيح، أنه { تمثل يوم حفر الخندق، بأبيات عبدالله بن رواحة رضي الله عنه ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي الله عنهم فإنهم يرتجزون وهم يحفرون، فيقولون:
لا هم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا(31)
ويرفع { بقوله: "أبينا" ويمدها، وقد روى هذا بزحاف، في الصحيحين أيضاً، وكذا ثبت أنه { قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو:
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبدالمطلب(32)
ولكن قالوا: هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه.
وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله { في غار فنكبت أصبعه، فقال {:
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت(33)
ثم قال ابن كثير موجهاً في ذلك بكلام دقيق: "وكل هذا لا ينافي كونه { ما علم شعراً، ولا ينبغي له، فإن الله تعالى إنما علمه القرآن، العظيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد 42 {فصلت: 42}، وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال، وقد كانت سجيته { تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً"(34).
ولا يقول قائل: بأن من تمثل بأبيات من الشعر فهو شاعر "ولا يلزم منه أن يكون النبي { عالماً بالشعر، ولا شاعراً؛ لأن التمثيل بالبيت النزر، وإصابة القافيتين في الرجز وغيره، لا يوجب أن يكون قائلها عالماً بالشعر، ولا يسمى شاعراً باتفاق العلماء.
كما أن من خاط خيطاً لا يكون خياطاً، قال أبو إسحاق الزجاج: معنى وما علمناه 69 {يس: 69} وما علمناه أن يشعر أي: ما جعلناه شاعراً، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئاً من الشعر، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في هذا، وقد قيل: إنما خَبَّر الله عز وجل أنه ما علمه الله الشعر، ولم يخبر أنه لا ينشد شعراً، وهذا ظاهر الكلام"(35).
وقد أنشد بعض الصحابة للنبي { مائة بيت، يقول بعدها {: "هيه". قال ابن كثير: يعني يستطعمه فيزيده من ذلك(36).
بيان حال شعراء الكفر والضلال:
قال تبارك وتعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون 224 ألم تر أنهم في كل واد يهيمون 225 وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 224 - 226}.
هذا استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم، من أنه من قبيل الشعر، وأن الرسول { شاعر، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام. بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل: ما يُلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل، بما مر من بيان أحوالهم المضادة لأحواله عليه الصلاة والسلام، والمعنى: أن الشعراء الذين يركبون المخيلات، والمزخرفات من القياسات الشعرية، والأكاذيب الباطلة، سواء كانت موزونة أم لا، فإنهم يتبعهم ويجاريهم ويسلك مسلكهم، ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن، لاغيرهم من أهل الرشد، المهتدين إلى طريق الحق، الداعين إليه"(37).
قال ابن عطية: ويدخل في الآية كل شاعر مُخَلِّط، يهجو ويمدح شهوة، ويقذف المحصنات، ويقول الزور.
ثم قال: وقوله في كل واد يهيمون 225 {الشعراء: 225} عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث الكلام وباطله، وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن.
وقوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226} ذكر لتعاطيهم وتعمقهم في مجاز الكلام حتى يؤول إلى الكذب"(38).
فهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم، "فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم، ولا عنهم، فيتكثرون بما ليس لهم"(39) ويدعون لأنفسهم بما لايستطيعونه ولا يقدرون عليه.
ولما كان الشعر منطلقه العاطفة الجياشة، والمشاعر الملتهبة، كان الشعراء إلى الإنحراف أقرب، وإلى الهوى أميل، إلا من رحم الله، كما قال تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون.
قال ابن سعدي عن الشعراء الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: ألم تر أنهم في كل واد يهيمون... قال: "ألم تر غوايتهم، وشدة ضلالهم أنهم في كل واد من أودية الشعر يهيمون فتارة في مدح، وتارة في قدح، وتارة يتغزلون، وأخرى يسخرون، ومرة يمرحون، وآونة يحزنون، فلا يستقر لهم قرار ولا يثبتون على حال من الأحوال. وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226} أي: هذا وصف الشعراء، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم، فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق، قلت: هذا أشد الناس غراماً، وقلبه فارغ من ذاك! وإذا سمعته يمدح أو يذم، قلت: هذا صدق، وهو كذب! وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها وتروك لم يتركها، وكرم لم يحم حول ساحته، وشجاعة يعلو بها على الفرسان، وتراه أجبن من كل جبان، هذا وصفهم..إلخ(40).
وقال يوسف العظم: "لا يقف القرآن الكريم عند الحديث عن الشعراء، بل يتعرض للجمهور المُعْجَب بالقول المشجع عليه، لأنه وسيلة من وسائل دعم الزور، وتأييد الكذب والاستزادة من الباطل، والسبب في ذلك واضح، إذ إن الشاعر ما كان ليتمادى في باطله، أو يوالي أكاذيبه لو لقي صدا من جمهور داع، وأمة سليمة الفكر، قويمة الخلق. ومن هنا: نجد حكم الإسلام شاملاً لا يتناول الشاعر وحده، بل يمتد فيشمل الشاعر شخصاً، والشعر مادة، والمستمعين جمهوراً مؤيداً أو معارضاً(41).
مسألة: اعتراف الشاعر في شعره بما يوجب الحد عليه؟
قال ابن كثير: اختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حداً، هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا؟ لأنهم يقولون مالا يفعلون، على قولين(42).
قال الشنقيطي:
أظهر القولين عندي: أن الشاعر إذا أقر في شعره بما يستوجب الحد، لا يقام عليه الحد؛ لأن الله جل وعلا صرح هنا بكذبهم في قوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226}.
فهذه الآية الكريمة تدرأ عنهم الحد، ولكن الأظهر أنه إن أقر بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب، وإن كان لا يحد به(43).
بيان حال شعراء الحق:
بعد ما ذكر جل وعلا شعراء الضلال، وبين أوصافهم، استثنى من جنس الشعراء، شعراء الحق والإيمان قال ابن عطية: هذا الاستثناء هو في شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت وكعب ابن مالك، وعبدالله بن رواحة، وكل من اتصف بهذه الصفة.
قال تعالى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون 227 {الشعراء: 227}.
وقوله: وذكروا الله كثيرا يحتمل أن يريد في أشعارهم ويحتمل أن يريد أن ذلك خلق لهم وعبادة وعادة(44).
وقوله: وانتصروا من بعد ما ظلموا 227 {الشعراء: 227}.
قال بيان الحق النيسابوري: أي شعراء المسلمين الذين نافحوا عن رسول الله {، وقال لحسان: "أجب عني". ثم قال: "اللهم أيده بروح القدس"(45).
قال ابن عطية: وباقي الآية وعيدٌ للظلمة، كفار مكة وتهديد لهم، وعمل (ينقلبون) في (أي) لتأخيره.
قال ابن عاشور: "وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين: حالة مذمومة وحالة مأذونة، فتعين أن ذمَّه ليس لكونه شعراً، ولكن لما حف به من معان وأحوال اقتضت المذمة، فانفتح بالآية للشعر باب قبول ومدح، فحق على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله، أو إلى جانب مدحه، والتي تأوي إلى جانب رفضه، وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله: وانتصروا من بعد ما ظلموا 227 {الشعراء: 227} وإلى الحالة المأذونة قوله: وعملوا الصالحات وكيف وقد أثنى النبي { عل بعض الشعر مما فيه محامد الخصال، واستنصت أصحابه لشعر كعب بن زهير وكان يستنشد شعر أمية ابن أبي الصلت، لما فيه من الحكمة، وأمر حسان بهجاء المشركين، وقال لكعب بن مالك: "لكلامك أشد عليهم من وقع النبل"(46).
وهذا تفصيل جيد، وتوضيح مفيد، وقد أسهب الجرجاني في مدح الشعر فقال: وأما التعلق بأحوال الشعراء بأنهم ذموا في كتاب الله تعالى فما أرى عاقلاً يرضى به أن يجعله حجة في ذم الشعر وتهجينه، والمنع من حفظه وروايته، والعلم بما فيه من بلاغة وما يختص به من أدب وحكمة، ذاك لأنه يلزم على قود هذا القول أن يعيب العلماء في استشهادهم بشعر امرئ القيس، وأشعار أهل الجاهلية في تفسير القرآن، وفي غريبه وغريب الحديث، وكذلك يلزمه أن يدفع سائر ما تقدم ذكره من النبي { بالشعر، وإصغائه إليه، واستحسانه له.
وبالجملة: فلا ينبغي أن يكون الغالب على العبد الشعر حتى يستغرق حياته، فهذا مذموم شرعاً، لقول النبي {: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً"(47).
قال الشافعي عن الشعر: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيحه. قال ابن العربي معلقاً: يعني: أن الشعر ليس يكره لذاته، وإنما يكره لمتضمناته، وقد كان عند العرب عظيم الموقع حتى قال الأول منهم: وجرح اللسان كجرح اليد(48) والله أعلم.
الهوامش:
1- معجم مقاييس اللغة، لابن فارس (193/3-194).
2- ما اتفق لفظه واختلف معناه، لإبراهيم ابن أبي محمد يحيى اليزيدي ص: (234).
3- لسان العرب لابن منظور مادة (الشعر).
4- العمدة في محاسن الشعر (116/1).
5- التعريفات للجرجاني (166-167).
6- المتنبي، محمود محمد شاكر ص: (7).
7- مهرجان القصيدة ص: (29) د. عدنان رضا النحوي.
8- عيون الأخبار لابن قتبة (199/2).
9- عيون الأخبار (200/2-201).
10 - أخرجه البخاري في كتاب الأدب المفرد، باب الشعر حسن كحسن الكلام ومنه قبيح، (صحيح الأدب المفرد ج865) قال الألباني: صحيح لغيره.
11- المصدر السابق (ح866) وقال الألباني: صحيح.
12- فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للجيلاني (315/2).
13- شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث (5/1-6) أحمد الجدع وحسني جرار.
14- الالتزام الإسلامي في الشعر د. ناصر الخنين (119-120) دار الأصالة 1408ه.
15- عون المعبود شرح سنن أبي داود لشمس الحق أبادي (354/13).
16- المصدر السابق (352/13-353).
17- فضل الله الصمد (321/2-322).
18- البخاري في الصلاة، باب الشعر في المسجد (ح453).
19- البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (ح3213).
20- البخاري في المناقب باب من أحب أن لا يسب نسبه (ح3531) ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل حسان (ح2490) وغيرهما.
21- أخرجه أحمد في المسند (124/3) وغيره وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
22- البخاري في كتاب الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر (ح6155)، ومسلم في صحيحه (ح2257) وغيرهما، وللأحاديث ألفاظ متنوعة أوردها عبدالغني المقدسي في كتاب: جزء أحاديث الشعر (ح32) فما بعد.
23- أحمد في المسند (134/6)، والبيهقي في الكبرى (245/10) بإسناد صحيح.
24- شرح صحيح مسلم للنووي (14/15).
25- فتح الباري (356/22).
26- الجامع لأحكام القرآن (151/13).
27- تفسير ابن كثير (587/3).
28- الجامع لأحكام القرآن (147/13).
29- جامع البيان (78/19).
30- البيان والتبيين للجاحظ (180/2).
31- أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، باب حفر الخندق (ح2837)، ومسلم في صحيحه ك الجهاد باب غزوة الأحزاب (ح1803).
32- أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قوله تعالى: ويوم حنين... (ج4316).
33- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد باب من ينكب في سبيل الله (ح2802).
34- تفسير ابن كثير (585/3-587).
35- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5497/8).
36- تفسير ابن كثير (587/3).
37- تفسير أبي السعود (120/4)، تفسير القاسمي (49/13-50).
38- المحرر الوجيز لابن عطية (246/4).
39- الشعر والشعراء ليوسف العظم (14-15).
40- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي (491/3).
41- الشعر والشعراء للعظم ص: (14-15).
42- تفسير ابن كثير (366/3).
43- أضواء البيان (391/6).
44- تفسير ابن عطية (247/2).
45- وضح البرهان في مشكلات القرآن (136/2).
46- التنوير والتحرير (207/19-208) للطاهر بن عاشور.
47- دلائل الإعجاز للجرجاني ص: (27).
48- أحكام القرآن (462/3).
وبعث أيضاً إلى أبي موسى الأشعري برسالة قال فيها: "مُرْ من قِبَلِك بتعلم الشعر، فإنه يحل عقدة اللسان، ويشجع قلب الجبان، ويطلق يد البخيل، ويحض على الخلق الجميل"(30).
نفي القرآن عن النبي { أن يكون شاعراً:
المتأمل للآيات الواردة في الشعر والشعراء يجد أنها أتت في معرض الذب عن الرسول {، ونفي الشعر عما أوحاه الله إليه؛ لأن الشعر بطبيعة الحال يتنافى مع طبيعة الرسالة والوحي، وقال تعالى: وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين 69 {يس: 69}.
وقال تعالى: إنه لقول رسول كريم 40 وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون 41 ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون 42 تنزيل من رب العالمين 43 {الحاقة: 40 - 43}.
وقد زعم كفار مكة أن هذا القرآن شعر، وأن محمداً شاعر قال تعالى: بل قالوا أضغاث أحلام بل \فتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون 5 {الأنبياء: 5}.
وقال تعالى: فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون 29 أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون 30 قل تربصوا فإني معكم من المتربصين 31 {الطور: 29 - 31}.
فالله تبارك وتعالى يبين أنه ماعلَّم نبيه الشعر وما علمناه الشعر وما ينبغي له 69 {يس: 69} قال ابن كثير: "أي ما هو في طبعه فلا يحسنه، ولا يحبه، ولا تقتضيه جبلته، ولهذا ورد أنه { كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم، بل إن أنشده زحفه، أو لم يتمه".
ثم قال: "وثبت في الصحيح، أنه { تمثل يوم حفر الخندق، بأبيات عبدالله بن رواحة رضي الله عنه ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي الله عنهم فإنهم يرتجزون وهم يحفرون، فيقولون:
لا هم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا(31)
ويرفع { بقوله: "أبينا" ويمدها، وقد روى هذا بزحاف، في الصحيحين أيضاً، وكذا ثبت أنه { قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو:
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبدالمطلب(32)
ولكن قالوا: هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه.
وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله { في غار فنكبت أصبعه، فقال {:
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت(33)
ثم قال ابن كثير موجهاً في ذلك بكلام دقيق: "وكل هذا لا ينافي كونه { ما علم شعراً، ولا ينبغي له، فإن الله تعالى إنما علمه القرآن، العظيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد 42 {فصلت: 42}، وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال، وقد كانت سجيته { تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً"(34).
ولا يقول قائل: بأن من تمثل بأبيات من الشعر فهو شاعر "ولا يلزم منه أن يكون النبي { عالماً بالشعر، ولا شاعراً؛ لأن التمثيل بالبيت النزر، وإصابة القافيتين في الرجز وغيره، لا يوجب أن يكون قائلها عالماً بالشعر، ولا يسمى شاعراً باتفاق العلماء.
كما أن من خاط خيطاً لا يكون خياطاً، قال أبو إسحاق الزجاج: معنى وما علمناه 69 {يس: 69} وما علمناه أن يشعر أي: ما جعلناه شاعراً، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئاً من الشعر، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في هذا، وقد قيل: إنما خَبَّر الله عز وجل أنه ما علمه الله الشعر، ولم يخبر أنه لا ينشد شعراً، وهذا ظاهر الكلام"(35).
وقد أنشد بعض الصحابة للنبي { مائة بيت، يقول بعدها {: "هيه". قال ابن كثير: يعني يستطعمه فيزيده من ذلك(36).
بيان حال شعراء الكفر والضلال:
قال تبارك وتعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون 224 ألم تر أنهم في كل واد يهيمون 225 وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 224 - 226}.
هذا استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم، من أنه من قبيل الشعر، وأن الرسول { شاعر، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام. بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل: ما يُلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل، بما مر من بيان أحوالهم المضادة لأحواله عليه الصلاة والسلام، والمعنى: أن الشعراء الذين يركبون المخيلات، والمزخرفات من القياسات الشعرية، والأكاذيب الباطلة، سواء كانت موزونة أم لا، فإنهم يتبعهم ويجاريهم ويسلك مسلكهم، ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن، لاغيرهم من أهل الرشد، المهتدين إلى طريق الحق، الداعين إليه"(37).
قال ابن عطية: ويدخل في الآية كل شاعر مُخَلِّط، يهجو ويمدح شهوة، ويقذف المحصنات، ويقول الزور.
ثم قال: وقوله في كل واد يهيمون 225 {الشعراء: 225} عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث الكلام وباطله، وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن.
وقوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226} ذكر لتعاطيهم وتعمقهم في مجاز الكلام حتى يؤول إلى الكذب"(38).
فهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم، "فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم، ولا عنهم، فيتكثرون بما ليس لهم"(39) ويدعون لأنفسهم بما لايستطيعونه ولا يقدرون عليه.
ولما كان الشعر منطلقه العاطفة الجياشة، والمشاعر الملتهبة، كان الشعراء إلى الإنحراف أقرب، وإلى الهوى أميل، إلا من رحم الله، كما قال تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون.
قال ابن سعدي عن الشعراء الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: ألم تر أنهم في كل واد يهيمون... قال: "ألم تر غوايتهم، وشدة ضلالهم أنهم في كل واد من أودية الشعر يهيمون فتارة في مدح، وتارة في قدح، وتارة يتغزلون، وأخرى يسخرون، ومرة يمرحون، وآونة يحزنون، فلا يستقر لهم قرار ولا يثبتون على حال من الأحوال. وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226} أي: هذا وصف الشعراء، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم، فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق، قلت: هذا أشد الناس غراماً، وقلبه فارغ من ذاك! وإذا سمعته يمدح أو يذم، قلت: هذا صدق، وهو كذب! وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها وتروك لم يتركها، وكرم لم يحم حول ساحته، وشجاعة يعلو بها على الفرسان، وتراه أجبن من كل جبان، هذا وصفهم..إلخ(40).
وقال يوسف العظم: "لا يقف القرآن الكريم عند الحديث عن الشعراء، بل يتعرض للجمهور المُعْجَب بالقول المشجع عليه، لأنه وسيلة من وسائل دعم الزور، وتأييد الكذب والاستزادة من الباطل، والسبب في ذلك واضح، إذ إن الشاعر ما كان ليتمادى في باطله، أو يوالي أكاذيبه لو لقي صدا من جمهور داع، وأمة سليمة الفكر، قويمة الخلق. ومن هنا: نجد حكم الإسلام شاملاً لا يتناول الشاعر وحده، بل يمتد فيشمل الشاعر شخصاً، والشعر مادة، والمستمعين جمهوراً مؤيداً أو معارضاً(41).
مسألة: اعتراف الشاعر في شعره بما يوجب الحد عليه؟
قال ابن كثير: اختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حداً، هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا؟ لأنهم يقولون مالا يفعلون، على قولين(42).
قال الشنقيطي:
أظهر القولين عندي: أن الشاعر إذا أقر في شعره بما يستوجب الحد، لا يقام عليه الحد؛ لأن الله جل وعلا صرح هنا بكذبهم في قوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون 226 {الشعراء: 226}.
فهذه الآية الكريمة تدرأ عنهم الحد، ولكن الأظهر أنه إن أقر بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب، وإن كان لا يحد به(43).
بيان حال شعراء الحق:
بعد ما ذكر جل وعلا شعراء الضلال، وبين أوصافهم، استثنى من جنس الشعراء، شعراء الحق والإيمان قال ابن عطية: هذا الاستثناء هو في شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت وكعب ابن مالك، وعبدالله بن رواحة، وكل من اتصف بهذه الصفة.
قال تعالى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون 227 {الشعراء: 227}.
وقوله: وذكروا الله كثيرا يحتمل أن يريد في أشعارهم ويحتمل أن يريد أن ذلك خلق لهم وعبادة وعادة(44).
وقوله: وانتصروا من بعد ما ظلموا 227 {الشعراء: 227}.
قال بيان الحق النيسابوري: أي شعراء المسلمين الذين نافحوا عن رسول الله {، وقال لحسان: "أجب عني". ثم قال: "اللهم أيده بروح القدس"(45).
قال ابن عطية: وباقي الآية وعيدٌ للظلمة، كفار مكة وتهديد لهم، وعمل (ينقلبون) في (أي) لتأخيره.
قال ابن عاشور: "وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين: حالة مذمومة وحالة مأذونة، فتعين أن ذمَّه ليس لكونه شعراً، ولكن لما حف به من معان وأحوال اقتضت المذمة، فانفتح بالآية للشعر باب قبول ومدح، فحق على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله، أو إلى جانب مدحه، والتي تأوي إلى جانب رفضه، وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله: وانتصروا من بعد ما ظلموا 227 {الشعراء: 227} وإلى الحالة المأذونة قوله: وعملوا الصالحات وكيف وقد أثنى النبي { عل بعض الشعر مما فيه محامد الخصال، واستنصت أصحابه لشعر كعب بن زهير وكان يستنشد شعر أمية ابن أبي الصلت، لما فيه من الحكمة، وأمر حسان بهجاء المشركين، وقال لكعب بن مالك: "لكلامك أشد عليهم من وقع النبل"(46).
وهذا تفصيل جيد، وتوضيح مفيد، وقد أسهب الجرجاني في مدح الشعر فقال: وأما التعلق بأحوال الشعراء بأنهم ذموا في كتاب الله تعالى فما أرى عاقلاً يرضى به أن يجعله حجة في ذم الشعر وتهجينه، والمنع من حفظه وروايته، والعلم بما فيه من بلاغة وما يختص به من أدب وحكمة، ذاك لأنه يلزم على قود هذا القول أن يعيب العلماء في استشهادهم بشعر امرئ القيس، وأشعار أهل الجاهلية في تفسير القرآن، وفي غريبه وغريب الحديث، وكذلك يلزمه أن يدفع سائر ما تقدم ذكره من النبي { بالشعر، وإصغائه إليه، واستحسانه له.
وبالجملة: فلا ينبغي أن يكون الغالب على العبد الشعر حتى يستغرق حياته، فهذا مذموم شرعاً، لقول النبي {: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً"(47).
قال الشافعي عن الشعر: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيحه. قال ابن العربي معلقاً: يعني: أن الشعر ليس يكره لذاته، وإنما يكره لمتضمناته، وقد كان عند العرب عظيم الموقع حتى قال الأول منهم: وجرح اللسان كجرح اليد(48) والله أعلم.
الهوامش:
1- معجم مقاييس اللغة، لابن فارس (193/3-194).
2- ما اتفق لفظه واختلف معناه، لإبراهيم ابن أبي محمد يحيى اليزيدي ص: (234).
3- لسان العرب لابن منظور مادة (الشعر).
4- العمدة في محاسن الشعر (116/1).
5- التعريفات للجرجاني (166-167).
6- المتنبي، محمود محمد شاكر ص: (7).
7- مهرجان القصيدة ص: (29) د. عدنان رضا النحوي.
8- عيون الأخبار لابن قتبة (199/2).
9- عيون الأخبار (200/2-201).
10 - أخرجه البخاري في كتاب الأدب المفرد، باب الشعر حسن كحسن الكلام ومنه قبيح، (صحيح الأدب المفرد ج865) قال الألباني: صحيح لغيره.
11- المصدر السابق (ح866) وقال الألباني: صحيح.
12- فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للجيلاني (315/2).
13- شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث (5/1-6) أحمد الجدع وحسني جرار.
14- الالتزام الإسلامي في الشعر د. ناصر الخنين (119-120) دار الأصالة 1408ه.
15- عون المعبود شرح سنن أبي داود لشمس الحق أبادي (354/13).
16- المصدر السابق (352/13-353).
17- فضل الله الصمد (321/2-322).
18- البخاري في الصلاة، باب الشعر في المسجد (ح453).
19- البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (ح3213).
20- البخاري في المناقب باب من أحب أن لا يسب نسبه (ح3531) ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل حسان (ح2490) وغيرهما.
21- أخرجه أحمد في المسند (124/3) وغيره وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
22- البخاري في كتاب الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر (ح6155)، ومسلم في صحيحه (ح2257) وغيرهما، وللأحاديث ألفاظ متنوعة أوردها عبدالغني المقدسي في كتاب: جزء أحاديث الشعر (ح32) فما بعد.
23- أحمد في المسند (134/6)، والبيهقي في الكبرى (245/10) بإسناد صحيح.
24- شرح صحيح مسلم للنووي (14/15).
25- فتح الباري (356/22).
26- الجامع لأحكام القرآن (151/13).
27- تفسير ابن كثير (587/3).
28- الجامع لأحكام القرآن (147/13).
29- جامع البيان (78/19).
30- البيان والتبيين للجاحظ (180/2).
31- أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، باب حفر الخندق (ح2837)، ومسلم في صحيحه ك الجهاد باب غزوة الأحزاب (ح1803).
32- أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قوله تعالى: ويوم حنين... (ج4316).
33- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد باب من ينكب في سبيل الله (ح2802).
34- تفسير ابن كثير (585/3-587).
35- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5497/8).
36- تفسير ابن كثير (587/3).
37- تفسير أبي السعود (120/4)، تفسير القاسمي (49/13-50).
38- المحرر الوجيز لابن عطية (246/4).
39- الشعر والشعراء ليوسف العظم (14-15).
40- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي (491/3).
41- الشعر والشعراء للعظم ص: (14-15).
42- تفسير ابن كثير (366/3).
43- أضواء البيان (391/6).
44- تفسير ابن عطية (247/2).
45- وضح البرهان في مشكلات القرآن (136/2).
46- التنوير والتحرير (207/19-208) للطاهر بن عاشور.
47- دلائل الإعجاز للجرجاني ص: (27).
48- أحكام القرآن (462/3).