المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الخرطوم وجوبا.. الحبل على الجرار



جهاد 2000
22-01-2012, 06:39 PM
الخرطوم وجوبا.. الحبل على الجرار

الاحد 28 صفر 1433 الموافق 22 يناير 2012

عبد الرحمن أبو عوف

يخطئ حكام جنوب السودان كثيرًا إذا اعتقدوا أنَّ محاولتهم العبث بالأوضاع داخل جارتهم الشمالِية الكبيرة قد يُؤمِّن لدولتهم الوليدة شيئًا من الاستقرار المفقود منذ ولدتها المتعسِّرة قبل أيام قليلة من اندلاع ثورات الربيع العربي في يناير 2011.. فالمحاولات لإشعال التوتر في المناطق الحدودية بين الطرفين والإيعاز إلى حلفاء جوبَا لإبرام تحالفٍ أطلق عليه الجبهة الثورية تضمُّ فلول الحركة الشعبية في الشمال وحركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان؛ سعيًا لقضّ مضاجِع النظام السوداني كهدفٍ تكتيكيٍّ، وصولاً إلى تنفيذ المسعَى الاستراتيجي المتمثل في تفتيت شمال السودان قد لا يوفِّر طوقَ النجاة لهذا الكيان الجديد، بل قد يثير متاعب لهذا الكيان الذي يُواجه صعوبات شديدة في بناء أبسط مقومات الدولة.

ويزيد من صعوبة مهمة حكام الجنوب أنَّ الصراعات العراقية بين القبائل الكبري هناك مثل الدينكا نقوك والشلوك والنوير وغيرها تبدو مرشحةً للاستمرار لأجلٍ ليس بالقصير في ظلّ الهيمنة المطلقة للدينكا على الدولة الوليدة وسيطرتهم على جميع دوائر صنع القرار، بل وهيمنتهم على ثروة الجنوب النفطية والمعدنية فيما تركوا أغلب الجنوبيين أسرَى للفقر والبطالة وغياب الخدمات بشكلٍ حرم المواطن من أبسط حقوقه وفتح الباب على مصراعيه أمام اضطرابات قبلية وعرقية، بل واقتصادية باعتبار أنَّ جزءًا من المواجهات الدموية جاءت بسبب الصراع على آلاف من قطعان الماشية.

"قاعدة خلفية"

حكومة الجنوب وبدلاً من التفرُّغ لمواجهة الصراعات العرقية والأوضاع الاقتصادية المتأزمة سعت لإثارة المتاعب لجارها الشمالِي عبر تدشين الجبهة الثورية ودعمها سياسيًا وعسكريًا لتحقيق حزمة من الأهداف فهي تحاول أنّ تنفض غبار الحديث عنها كدولةٍ فاشلةٍ عبر العمل على تفكيك السودان وإعادة توحيده وفق نظام كونفيدرالي يضعف قبضة الخرطوم ويحرمها من ميزات عديدة في التفاوض في القضايا العالقة والعمل على الوفاء بالفاتورة التي قطعتها على نفسها لبلدان الغرب الداعمين الرئيسين لاستقلالها مقابل أن تشكِّل قاعدة خلفية لحركات التمرُّد ضد السودان وتحركات القوى الدولية والإقليمية المعادية له.

"أدوار مشبوهة"

كما أنَّها لا تنكر سعيها الدءوب لإسقاط حكم البشير انطلاقًا من أن استمرار النظام سيحرمها من إيجاد موطئ قدمٍ لها في السودان أو الوصول لتسوية تُفْضِي إلى حصول مؤيديها على نفوذ أكثر داخل دوائر صنع القرار في المركز أو العمل على فصل دارفور وجبال النوبة وشرق السودان تباعًا بجانب استقطاب الدعم الدولي والإقليمي لبناء جيش قوي يتصدّى للتمرد الداخلي بجنوب السودان كمكافأة علي هذه الأدوار المشبوهة.

"أدوات الخنق"

إذا كانت دولة الجنوب تعتقد أنَّ لديها أوراقًا تستطيع بها إثارة المتاعب للسودان سواء في مناطق التماس أو من قبل بعض المتمردين الشماليين أو تملك من التأثير لإشعال الأوضاع في دارفور فأنَّها تتجاهل ما تمتلكه الخرطوم كذلك من أوراق ضغط تستطيع بها خنق النظام الوليد عبر سلسلةٍ من الخطوات منها الاقتصادي في ظلّ اعتمادها وبشكلٍ كليٍّ على ميناء بور سودان الشمالِي لنقل أغلب انتاجها النفطي وهو ما ترجم على أرض الواقع بقيام الخرطوم وبحسب اتهامات باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية بالاستيلاء على 750 ألف برميل من النفط متذرعة بعدم تسديد جوبا عائدات نقل الخرطوم للنفط ومطالبتها بالحصول على 38 دولارًا مقابل نقل كل برميل من نفط، وهو رقم يعتبره الجنوبيون مبالغًا فيه بل يشكل مسعى من الخرطوم لاستمرار حصولها على 50% من نفط الجنوب، وكأنَّ انفصال الجنوب لم يقع حتى الآن.

ويعتبر الكثير من المراقبين أنَّ مبالغة الخرطوم في تقدير رسوم النفط وتمسكها بضرورة الحصول على مستحقاتها كاملة من نقل النفط جاءت كخطوة عقابية لجوبا على تدخلها في شئونها عبر إشعال الأوضاع في مناطق التماس في النيل الأزرق وجنوب كردفان وإمداد عدد لا بأس من حركات التمرد بكميات كبيرة من السلاح لمجابهة حكومة البشير ومحاولة حشد المعارضة الشمالية لإسقاط النظام في ظلّ محاولات رموز ها في مقدمتهم الترابي تدشين جبهة تُمهِّد السبيل لانتفاضة شعبية تزيل النظام السوداني علي غرار ثورات الربع العربي.


"عجز وتساؤلات"

ولم تكتفِ الخرطوم بذلك بل إنَّ تقارير غربية أكّدت ضلوعها في إشعال الاضطرابات الدامية في عددٍ من مدن الجنوب وما خلفتها تداعياتها من سقوط آلاف الضحايا نتيجة الصراع القبلي وهي أحداث أزعجت حكومة سلفاكير كونها قدَّمت رسالة للعالم والمجتمع الدولي بعجز حكومة جنوب السودان عن ضبط الأمن في الكيان الوليد أو التدخل لتأمين مصالح شركات النفط الغربية العاملة داخل الكيان الوليد، فضلاً عن حماية قوات حفظ السلام الأممية التي تعرضت لهجمات أجبرت روسيا على التلويح بسحب مروحياتها وإنهاء مهمتها في الجنوب اعتراضًا على الهجمات على هذه القوات بل إنَّ الأمر قد يطرح تساؤلات حول وجهة الأموال التي قدّمت لجوبا لدعم أجهزة الدولة الأمنية.

وقد دفعت هذه الأحداث واشنطن للدخول على خط الأزمة ومناشدة حكومة الجنوب بالتصدِّي لهذه الاضطرابات الأمنية وضمان عدم تكرارها باعتبار أنها تؤثر بالسلب على صدقية دولة جنوب السودان أمام المجتمع الدولي، لاسيما أنَّ تكرار مثل هذه الأحداث يكرِّس صورة الدولة الوليدة ككيانٍ فاشلٍ لا يمتلك أي مقومات من مقومات الدول الطبيعية رغم أنَّ واشنطن لم تفوِّت الفرص كذلك بمطالبة الشمال والجنوب بضبط النفس إدراكًا منها بتورُّط الخرطوم بشكلٍ أو بآخر في هذه الأحداث الدامية ردًّا على تورط الجنوب في التدخل في شئونها.


"مخابرات غربية"

لا يستبعد وقوف قوى غربية في إشعال الأحداث الدامية في الجنوب الذي تحوَّل خلال الفترة الأخيرة إلى محطة لعدد من أجهزة الاستخبارات الغربية الساعية بقوة لإحكام سيطرتها علي هذه البقعة الاستراتيجية من العالم والغنية بالنفط وعدد من المعادن حيث تسعي هذه الأجهزة لابتزاز قادة الجنوب للحصول على نصيب وافر من كعكة النفط التي أحكمت شركات صينية سيطرتها عليها طوال العقود الماضية، فضلاً عن التوغُّل في الجنوب بشكلٍ يتيح لها من جهة أخرى التدخل للحفاظ على مصالحها والعمل أيضًا على حماية هذا الكيان الوليد في ظلّ مراهنة الغرب عليه كرأس حربة لمخططاته في القرن الإفريقي في منطقة البحيرات العظمي وهو ما دفع واشنطن لإرسال وجود عسكرية لاستئصال شأفة جيش الربّ الأوغندي المناوئ لحكومة موسيفني وحلفائه في جوبا

"أجواء ضاغطة"
ولا شكَّ أنّ مثل هذه الأجواء الضاغطة قد ألقت بظلالها على المفاوضات الجارية بين الطرفين لتسوية الأزمة بين الشمال والجنوب بوساطة إفريقية يقودها الرئيس الجنوب إفريقي ثابو أمبيكي منها قضايا النفط وأبيي والديون وممتلكات جمهورية السودان قبل الانفصال والتي كان من المفترض حسمها بين الطرفين منذ عام وتقريبًا وقبل استقلال الجنوب غير أنّ التطورات المتسارعة قد حالت دون تنفيذ هذه التسوية في حينها مما أبقاها قنابل موقوتة قد تنفجر في وجه الطرفين بين الحين والآخر، بل وتعزز حالة عدم الثقة بين الطرفين وتدفعهما للمارسة ضغوط على الآخر لانتزاع ما يعتبرانه حقوقًا لهم في تركة السودان الثقلية.


"بوادر مواجهة"
حالة عدم الثقة بين الطرفين كان لها دور في تعثر المفاوضات الدائرة بل وتلويح الجنوب بتعليقها إلى أجل غير مسمى حتى توقف الخرطوم سطوها على نفط جوبا بحسب قيادات جنوبية، بل إن جوبا قد سعت لاستخدام هذا الملف للتصعيد مع الخرطوم بالتلويح بمقاضاة الدول والشركات التي ستبيعها الخرطوم كميات النفط المصادرة بل إنَّها سعت لدى قوى كبرى ومنها الصين للضغط على الخرطوم للقبول بحل وسط لقضية نقل النفط تخفض بموجبه الخرطوم رسوم نقل نفط الجنوب بدلاً من فرض أسعار تعجيزية تصعب من محاولة تسوية الأزمة.

من الواضح أنّ قضية نقل نفط الجنوب تعدّ أحد مظاهر الأزمة وليست سببًا لتفجيرها فحالة انعدام الثقة وتلويح كل فريق بما يمتلكه من أوراق والتي كان آخرها حديث الرئيس البشير عن احتمالات عودة الحرب بين الشمال والجنوب قد وضع جميع الخيارات على الساحة، لاسيما إذا لم يستمع الطرفان لصوت العقل ويقتنعان بأنَّ من الأجدر بناء شراكة وتكامل بين الشمال والجنوب كما عرضها وزير خارجية مصر محمد كامل عمرو تتولّى تسوية جميع القضايا العالقة والتي يشكل عدم حلها خطرًا كبيرًا على استقرار البلدين، ولكن يبدو أنَّ الأوان لم يَحِن بعد لإتمام هذا الأمر فلا القوي الدولية مستعدة لدعم هذا الخيار ولا يوجد تحرك إقليمي جادّ لفرض تسوية بشكل يشير إلى أنّ العلاقة بين الجارين اللدودين ستستمر ما بين شدّ وجذبٍ لأجل ليس بالقصير.