المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ملحق الثورة المصرية



جهاد 2000
24-11-2011, 08:19 PM
ملحق الثورة المصرية

الخميس 28 ذو الحجة 1432 الموافق 24 نوفمبر 2011

السيد أبو داود

الأحداث الدامية التي تشهدها مصر حاليًا، ليست منبتَّة الصلة عما حدث منذ الإطاحة بالرئيس المخلوع مبارك في 11 فبراير الماضي. فقد انصرف الثوار المصريون من ميدان التحرير (معقل الثورة) ظنًا منهم أن الثورة قد حققت أهدافها، وقد تأكد بعد ذلك أن هذا كان خطأ كبيرًا.

صحيح أن الجيش المصري، بقيادة مجلسه العسكري، رفض تنفيذ أوامر الرئيس المخلوع بإخلاء الميدان من المتظاهرين بأية طريقة، وصحيح أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة احتضن الثورة وحماها، إلا أن هذا المجلس نفسه فيما بعد هو الذي وضع البلاد في ثلاجة، وتباطأ إلى درجة الإهمال المتعمد في تنفيذ مطالب الثورة وأهدافها.

فطوال عشرة أشهر مضت بعد الإطاحة بالرئيس المخلوع، لم يحدث تغيير ذو بال في بنية النظام السياسي أو الإداري أو الاقتصادي للبلاد. ويبدو أن السبب الرئيس في ذلك هو عدم فهم قادة الجيش لمعنى الثورة، وعدم التفاعل مع مقتضياتها ومطالبها.

إن أهم مقتضيات الثورة، وأبرز سماتها، السرعة في إحداث التغييرات المطلوبة في المجتمع، والحسم في إنجاز الملفات، حتى يشعر الناس أن هناك تغييرًا يحدث. ولكن الملمح الأساسي في سلوك قادة الجيش بعد الثورة هو أنهم وقفوا بكل طريقة ضد التغيير السريع والثوري والحاسم، ظنًا منهم أن ذلك سيعرض استقرار البلاد للخطر. وكان هذا هو أول وأهم وأكبر أخطاء قادة الجيش.

يكفي أن ملفًا بسيطًا مثل ملف شهداء ومصابي الثورة، استغرق وقتًا طويلًا من أجل إنهائه وصرف حقوق هؤلاء وعلاجهم، ولم ينجز إلا بعد عدة وقفات احتجاجية من أهالي الشهداء والمصابين والمتضامنين معهم.

أما محاكمة رموز النظام البائد، فقد كان هناك إصرار من قادة الجيش على البطء الشديد في تقديمهم للمحاكمات، ويكفي أن الرئيس المخلوع حتى الآن لم تتم خطوات جادة لمحاكمته، وهو ما جعل كثيرًا من المصريين يعتقدون أن ضباط الجيش لا يريدون محاكمة زميلهم السابق.

لم يؤمن الحكام العسكريون بمعنى الثورة، ولذلك فقد رفضوا أن تكون هناك محكمة ثورة تحاكم رموز الفساد الذين أسقطتهم ثورة 25 يناير، وكأنهم يتعاملون مع ظروف عادية وليس ظروفًا ثورية. ومحاكم الثورة ليست بدعة، وإنما في كل الثورات العالمية تحدث محاكمات ثورية. لو كانت هناك محكمة ثورة لكنا قد انتهينا الآن من محاكمة رموز العهد البائد. ومن الغريب أن يرفض هؤلاء العسكريون محاكمة مبارك وزبانيته بمحاكم ثورية استثنائية في الوقت الذي أدار هو البلاد طيلة عهده بمحاكم عسكرية واستثنائية. وحتى المحاكمات الضعيفة والبطيئة الحالية، لم تبدأ إلا بعد عدة مظاهرات مليونية تطالب بإجراء المحاكمات.

وقد كان ملف التعاطي مع صحة مبارك ملفًا مثيرًا لغضب المصريين وغيظهم، فأصر المجلس العسكري على عدم نقله إلى محبسه الطبيعي والعلاج في مستشفاه، وتوفير علاج فندقي له، ومسايرته في خداع الناس عبر نقله إلى جلسات المحاكمة على سرير طبي، رغم أن التقارير الطبية تتحدث عن حالته الصحية الجيدة. فصار الأمر أمام المصريين أن القوم يجاملون زميلهم ويريدون ألا يصيبه أي ضرر، ويعملون كل ما من شأنه أن تكون المحاكمات ضعيفة وشكلية.

وفي إطار هذا الفكر العسكري، كان ملف تطهير البلاد من رموز حكم النظام السابق مثيرًا لعجب واستغراب المصريين، فظل هؤلاء الرموز في أماكنهم ومناصبهم، وظل الصحفيون والإعلاميون من حراس العهد البائد في أماكنهم لفترة طويلة، ولم تمتد إليهم يد التغيير إلا بعد مظاهرات مليونية، وحينما امتدت يد التغيير امتدت برفق وفي أضيق الحدود، حتى إن كثيرًا من هؤلاء مازالوا موجودين يبثون سمومهم في نفوس وعقول المصريين.

وكان آخر هذه الأخطاء هو التقاعس والتكاسل عن إصدار قانون "إفساد الحياة السياسية"، الذي لم يصدر إلا منذ أيام، وبعد مليونية الجمعة الأخيرة، مما مكَّن فلول الحزب الوطني من الترشح للانتخابات البرلمانية، مما يهدد بأن ينجح الكثير منهم ويكونوا أعضاء في برلمان الثورة.

ما يؤكد التباطؤ والتقاعس المتعمد في الإنجاز أن القوم لا يتحركون أبدًا إلا بعد الضغط عليهم بشدة عبر المظاهرات المليونية، وهو ما يعني أنهم في واد والثورة ومطالبها في واد آخر. ومعنى ذلك أنه إذا لم تحدث المظاهرات المليونية الضاغطة لما حدث شيء على الإطلاق، بل لربما رأينا أمورًا أعجب وأخطر.

كل ما سبق يؤكد أن المجلس العسكري قد فشل فشلًا ذريعًا في إدارة شئون البلاد في المرحلة الانتقالية، وهو ما يؤكد ما استقر في نفوس المصريين من أن العسكر لا يصلحون أبدًا لإدارة دولاب الدولة، ولا يعرفون كيف يكون التعاطي مع منظومة العمل والفكر المدنية. قد يكونون مخلصين ووطنيين وأكفاء عسكريًا، ولكن حكم المجتمع والرؤية السياسية البعيدة أمر مختلف تمامًا، فالعسكر لا يعرفون إلا الأوامر الفوقية، ولا يستفزهم إلا الاختلافات التي تستوجب الفكر والحوار.

وقف قادة الجيش يتفرجون على الملف الأمني، وتركوا لوزير الداخلية المهمة، والرجل أفصح عن فكره من البداية، وأكد أن الأمور لا تحتمل تغييرًا جوهريًا في بنية منظومة الأمن المصرية، فلم تحدث حركة تطهير في وزارة الداخلية، اللهم إلا إحالة بعض الرتب الكبيرة إلى المعاش، ومكافأة بعضهم بالإشراف على بعثة الحج هذا العام، فاصطحبوا نساءهم وأقاربهم، مما أدى إلى أسوأ موسم حج عرفه المصريون. وتم تغيير اسم جهاز أمن الدولة إلى الأمن الوطني. أما بنية جهاز الأمن وفكره وعقيدته فلم يحدث فيها أي تغيير يذكر.

كلامنا هذا ليس قذفًا للاتهامات بدون دليل، فالأحداث التي شهدها ميدان التحرير في الأيام الماضية، وقتل قرابة أربعين شابًا من الثوار، أكثرهم بإطلاق الرصاص عليهم في رءوسهم وأعينهم وأقلهم اختناقًا بالغاز وقنص عدد منهم، كل ذلك يؤكد أن العقلية هي هي، وأن ما حدث كان أكثر شراسة مما حدث أثناء الثورة. وهو ما يؤكد على ضرورة إحداث تغيير جذري في المنظومة الأمنية. فقد عاد ملف الأمن أكثر خطورة من ذي قبل، وبدا الأمر أن الشرطة عادت لتثأر من الثورة والثوار، وهذا أمر على جانب كبير من الخطورة.

كانت الثقة كبيرة بين الجيش المصري والشعب، ولكن الشهور العشرة الأخيرة هزت هذه الثقة بعنف. لم يكن المصريون في بداية نجاح الثورة يصدقون من يقول لهم: إن المجلس العسكري يريد البقاء في الحكم، ولكنهم الآن يصدقون ذلك. فبعد أن مرر المجلس العسكري وثيقة المبادئ فوق الدستورية من خلال د. علي السلمي، وضمنها المادتين التاسعة والعاشرة، اللتين تجعل الجيش مؤسسة فوق الدستور والقانون ودولة داخل دولة، وبعد أن أعلن رئيس المجلس العسكري أنه مستعد لتسليم السلطة بعد استفتاء شعبي، كل ذلك يؤكد أن هناك نوايا مبيتة في الاستمرار في الحكم. وهو ما جعل كثيرًا من الكتَّاب يطالبون بالخروج الآمن للمجلس العسكري، لو ثبت إدانة كل أعضائه أو بعضهم بقضايا فساد تورطوا فيها مثل رموز العهد البائد.

يقارن المصريون بين ما حدث في تونس وما يحدث في مصر فيتألمون ويتحسرون، فتونس أصبح لديها مجلس تأسيسي (برلمان) سيضع الدستور، ولديها رئيس مدني، ونجح فيها حزب النهضة الإسلامي وفاز بأكثر الأصوات، ومع ذلك لم يسمع المجتمع التونسي لحملات التخوين والتخويف من العلمانيين ضد الإسلاميين كما يحدث في مصر، بل إن التنسيق تم بين الطرفين حاصل بسلاسة، فأصبح أحد الليبراليين رئيسًا للبلاد، وأحد الإسلاميين رئيسًا للوزراء. يعقد المصريون هذه المقارنة ويندمون، لأن المجلس العسكري خاف من الاتجاهات الليبرالية والعلمانية أكثر من اللازم، رغم أنها اتجاهات ليس لها وجود كبير في الشارع.

ما يغضب المصريين أيضًا أن المجلس العسكري كان يسير في الطريق الصحيح لفترة قصيرة فقط بعد الثورة، وكان يقرِّب منه المخلصين والأكفاء من المستشارين، أمثال المستشار طارق البشري، ثم بعد ذلك أصبح لا يسمع إلا لمستشاري السوء وترزية القوانين الذين كانوا مستشاري العهد البائد، وكانت النتيجة أن اختلت البوصلة فوجب تصحيح المسار.

الغالبية العظمى من أهل الرأي في مصر يعتقدون أن رئيس الوزراء د. عصام شرف كان جزءًا من المشكلة، رغم أنه كان من اختيار الثوار في ميدان التحرير، والسبب أن الرجل بضعف شخصيته انسحق أمام رئيس المجلس العسكري، ولم يطالب بصلاحيات كاملة لوزارته، ولم يدافع عن ذلك، مما أدى إلى تحوله إلى مجرد واجهة لطرف آخر يملي عليه كل ما يريد. ففي الحقيقة لم يكن عصام شرف يتمتع إلا بالقليل من الصلاحيات، وكان يجب عليه أن يستقيل ويحرج المجلس العسكري.

لكل ما سبق، وصلت الثورة المصرية إلى طريق مسدود، ووجد المصريون أن ثورتهم تُسرق من أيديهم، فخرجوا مرة أخرى إلى الميادين والشوارع لإنقاذ ثورتهم، وهم معترفون بأنهم أخطئوا حينما تركوا الميادين وانصرفوا ووثقوا في المجلس العسكري، ولم يصرفهم خطاب المشير الذي أعلن فيه قبول استقالة الوزارة وتحديد موعد انتخابات الرئاسة، وأصبحوا يصرون على مطلبهم بضرورة إزاحة المجلس العسكري ونقل السلطة إلى المدنيين.

الجديد في الثورة المصرية الثانية هو روح الإصرار العالية لدى الشباب، الذين لقنوا السياسيين المنتفعين من الثورة درسًا بليغًا بطردهم لرموز سياسية كثيرة من الميدان، والتأكيد على رفضهم للشعارات والتيارات المختلفة، فهم الشباب الذي لا ينتمي لأي اتجاه، وهم من صنعوا ثورة 25 يناير، وهم من أكملوها في 18 نوفمبر، ليؤكدوا مرة أخرى أن الثورة المصرية قام بها رجل الشارع المصري العادي، وأن الجميع يلاحقها ولا يكاد يدركها.

أغلب الظن أن الثورة هذه المرة لن تنتهي إلا بتحقيق أهدافها، فلن تنخدع مرة أخرى، ولن تأمن لأي أحد، ولن تسلم نفسها لأي تيار سياسي مهما كان، وهو ما يعطي رونقًا جديدًا لهذه الثورة، ويؤكد أنها ثورة مبدعة، لكن مشكلتها أن العسكريين والسياسيين ما زالوا حتى الآن غير مدركين لطبيعتها وأبعادها وأهدافها.