المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباب الثاني : الدنيا ...



استاذ على
12-07-2010, 11:47 AM
الباب الثاني : الدنيا ... من كتاب ففرو الى الله
أولاً : قال اللَّه تعالى :  أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ  حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ  كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ  ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ  كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ  لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ  ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ  ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ  [ التكاثر : 1- 8 ] .
جاء في (( مختصر ابن كثير )) ما مختصره : يقول تعالى : أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها ، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر ، وصرتم من أهلها ، عن زيد بن أسلم قال : قال رسول اللَّه  :  أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ  عن الطاعة ،  حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ  حتى يأتيكم الموت( ) . وقال الحسن البصري :  أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ  في الأموال والأولاد ، وعن أبـيّ بن كعب قال : كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت :  أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ  يعني : (( لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب ))( ) . وروى الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن الشخير قال : انتهيت إلى رسول اللَّه  وهو يقول : ((  أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ  يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ؟ ))( ).
وروى مسلم في (( صحيحه )) عن أبـي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه  : (( يقول العبد : مالي مالي ، وإنما له من ماله ثلاث ، ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو تصدّق فأمضى ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس ))( ) .
وروى البخاري عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللَّه  : (( يتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان ويبقى معه واحد : يتبعه أهله وماله وعمله ، فيرجع أهله وماله ، ويبقى عمله ))( ) .
وعن أنس أن النبـي  قال : (( يهرم ابن آدم وتبقى معه اثنتان : الحرص ، والأمل ))( ) . وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة الأحنف بن قيس أنه رأى في يد رجل درهمًا فقال : لمن هذا الدرهم ؟ فقل الرجل : لي ، فقال : إنما هو لك إذا أنفقته في أجر ، أو ابتغاء شكر ، ثم أنشد الأحنف متمثلاً قول الشاعر :
أنـت للمــال إذا أمسـكتــه فـإذا أنفقتــه فـالمـال لـك
وقوله تعالى :  كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ  ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ  قال الحسن البصري : هذا وعيد بعد وعيد ، وقال الضحاك :  كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ  يعني : أيها الكفار ،  ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ  يعني : أيها المؤمنون ، وقوله تعالى :  كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ  أي : لو علمتم حق العلم لما ألهاكم التكاثر عن طلب الدار الآخرة حتى صرتم إلى المقابر ثم قال :  لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ  ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ  هذا تفسير الوعيد المتقدم ، وهو قوله :  كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ  ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ  توعدهم بهذا الحال وهو رؤية أهل النار ، التي إذا زفرت زفرة واحدة ، خرّ كل ملك مقرب ونبـي مرسل على ركبتيه ، من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال ، على ما جاء به الأثر المروي في ذلك .
وقوله تعالى :  ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ  أي : ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم اللَّه به عليكم ، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ، ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته( ). انتهى .
ثانيًا : قال اللَّه تعالى :  وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى  وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى  [ طه : 131 ، 132 ] .
قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى : يقول تعالى لنبـيه محمد  : لا تنظر إلى هؤلاء المترفين وأشباههم ونظرائهم وما فيه من النعيم ، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور ، وقال مجاهد :  أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ  يعني : الأغنياء ، فقد آتاك خيرًا مما آتاهم . ولهذا قال :  وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى  . وفي (( الصحيح )) أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول اللَّه  في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن ، فرآه متوسدًا مضطجعًا على رمال حصير ، وليس في البـيت إلا صبرة من قرظ( ) واهية معلقة ، فابتدرت عينا عمر بالبكاء ، فقال له رسول اللَّه  : (( ما يبكيك يا عمر ؟ )) فقال : يا رسول اللَّه ، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة اللَّه من خلقه ! فقال : (( أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عُجِّلَت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا )) . فكان  أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد اللَّه ، ولم يدخر لنفسه شيئًا لغد .
عن عطاء بن يسار عن أبـي سعيد أن رسول اللَّه  قال : (( إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح اللَّه لكم من زهرة الدنيا )) ، قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول اللَّه ؟ قال : (( بركات الأرض ))( ) .
وقال قتادة والسدي :  زَهْرَةَ الْحَيَاةِ  يعني : زينة الحياة الدنيا .
وقال قتادة :  لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ  لنبتليهم ، وقوله :  وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا  أي : استنقذهم من عذاب اللَّه بإقام الصلاة واصبر أنت على فعلهـــا ، كمـا قــال تعالى :  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا  [ التحريم : 6 ] . وقـــوله :  لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ  يعني : إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب ، كما قال تعالى :  وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا  وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ  [ الطلاق : 2،3 ] ، . ولهذا قال :  لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ  ، وقال الثوري : لا نسألك رزقا : أي : لا نكلفك الطلب . وقال ابن أبي حاتم ، عن ثابت قال : كان النبـي  إذا أصابه خصاصة نادى أهله يا أهلاه صلوا ، صلوا ، قال ثابت : وكانت الأنبـياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة . وقال رسول اللَّه  : (( يقول اللَّه تعالى يا ابن آدم ، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسد فقرك ، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك ))( ) .
وعن زيد بن ثابت قال : سمعت رسول اللَّه  يقول : (( من كانت الدنيا همه فرق اللَّه عليه أمره ، وجعل فقره بـين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره ، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ))( )، وقوله :  وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى  أي : وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة وهي الجنة لمن اتقى اللَّه( ) .. انتهى .
ثالثًا : يقول رسول اللَّه  : (( لو كانت الدنيا تعدل عند اللَّه تعالى جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء )) . رواه الترمذي وصححه . وصححه الألباني .
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور :
جاء في (( مختصر منهاج القاصدين )) ما مختصره :
الآيات الواردة في القرآن العزيز بعيب الدنيا ، والتزهيد فيها ، وضرب الأمثال لها كثيرة ، كقوله تعالى :  زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ  قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ  [ آل عمران : 14-15 ] ، وقوله :  وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور  [ آل عمران : 185 ] . ، وقوله :  إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء  [ يونس : 24 ] ، وقوله :  اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ  [ الحديد : 20 ] ، وقوله :  وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ  [ الزخرف : 35 ] ، وقوله :  فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا  ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ  [ النجم :29-30 ] .
وأما الأحاديث ، ففي (( الصحيحين )) من رواية المسور بن شداد، قال: قال رسول اللَّه : (( ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ، فلينظر بم ترجع ؟ )) .
وفي حديث آخر : (( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )) رواه مسلم .
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذم الدنيا كتابًا طويلاً فيه : أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام ، فاحذرها يا أمير المؤمنين ، فإن الزاد منها تركها ، والغنى فيها فقرها ، تذل من أعزها ، وتفقر من جمعها ، كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه ، فاحذر هذه الدار الغِرارة الخيالة الخداعة ، وكن أسرَّ ما تكون فيها ، احذر ما تكون لها ، سرورها مشوب بالحزن ، وصفوها مشوب بالكدر ، فلو كان الخالق لم يخبر عنها خيرًا ، ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم ، ونبهت الغافل ، فكيف وقد جاء من اللَّه عز وجل عنها زاجر ، وفيها واعظ ، فما لها عند اللَّه سبحانه قدر ولا وزن .
ولقد عرضت على نبـينا محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم مفاتيحها وخزائنها ، لا ينقصه عند اللَّه جناح بعوضة ، فأبى أن يقبلها ، وكره أن يحب ما أبغض خالقه ، أو يرفع ما وضع مليكه ، زواها اللَّه عن الصالحين اختيارًا ، وبسطها لأعدائه اغترارًا ، أفيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرمَ بها ؟ ونسي ما صنع اللَّه بمحمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم حين شد على بطنه الحجر، واللَّه ما أحد من الناس بسط له في الدنيا ، فلم يخف أن يكون قد مكر به ، إلا كان قد نقص عقله ، وعجز رأيه ، وما أمسك عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها ، إلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه .
وقال مالك بن دينار : اتقوا السحارة ، فإنها تسحر قلوب العلماء - يعني الدنيا .
ومن أمثلة الدنيا : قال يونس بن عبـيد : شبهت الدنيا كرجل نائم ، فرأى في منامه ما يكرهه وما يحب ، فبـينما هو كذلك انتبه .
ومثل هذا قولهم : الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا .
والمعنى أنهم ينتبهون بالموت وليس في أيديهم شيء مما ركنوا إليه وفرحوا به .
قيل : إن عيسى  رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء( ) عليها من كل زينة . فقال لها : كم تزوجت ؟ قالت : لا أحصيهم . قال : فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك ؟ قالت : بل كلهم قتلتُ ، فقال عيسى  : بؤسًا لأزواجك الباقين ، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين ، كيف تهلكينهم واحدًا بعد واحد ، ولا يكونون منك على حذر .
وروي عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال : يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء( ) زرقاء أنيابها بادية ، مشوه خلقها ، فتشرف على الخلق ، فيقال : هل تعرفون هذه ؟ فيقولون : نعوذ باللَّه من معرفة هذه . فيقال : هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها ، وبها تقاطعتم الأرحام ، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم ، ثم تقذف في جهنم ؛ فتنادي : يا رب ، أين أتباعي وأشياعي ؟ فيقول : ألحقوا بها أتباعها وأشياعها .
وعن أبـي العلاء ، قال : رأيت في النوم عجوزًا كبـيرة عليها من كل زينة ، والناس عكوف عليها متعجبون ، ينظرون إليها ، فقلت : من أنت ويلك ؟ قالت : أما تعرفني ؟ قلت : لا ، قالت : أنا الدنيا . فقلت : أعوذ باللَّه من شرك . قالت : إن أحبـبت أن تعاذ من شري فأبغض الدرهم .
وقال بعضهم : رأيت الدنيا في النوم عجوزًا مشوهة الخلقة حدباء .
مثال آخر : واعلم أن أحوالك ثلاث : حال لم تكن فيها شيئًا ، وهي قبل أن توجد .
وحال أخرى ، وهي من ساعة موتك إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي ، فإن لنفسك وجودًا بعد خروجها من بدنك ، إما في الجنة أو النار ، وهو الخلود الدائم .
وبين هاتين الحالتين حالة متوسطة ، وهي أيام حياتك في الدنيا ، فانظر إلى مقدار ذلك ، وانسبه إلى الحالتين ، تعلم أنه أقل من طرفة عين في مقدار عمر الدنيا .
ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها ، ولم يـبال كيف انقضت أيامه بها في ضرر وضيق ، أو سعة ورفاهية ، ولهذا لم يضع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لبنة على لبنة ، ولا قصبة على قصبة . وقال : (( ما لي وللدنيا ؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ، قال( ) تحت شجرة ، ثم راح وتركها ))( ) .
وقال عيسى  : الدنيا قنطرة ، فاعبروها ولا تعمروها .
هذا مثل واضح ، فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة ، والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة ، واللحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة .
ومن الناس من قطع نصف القنطرة ، ومن الناس من قطع ثلثيها ، ومنهم من لم يـبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها ، وكيفما كان فلابد من العبور ، فمن وقف يـبني على القنطرة ويزينها وهو يستحث للعبور عليها ، فهو في غاية الجهل والحمق .
وقيل : مثل طالب الدنيا، مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربًا، ازداد عطشًا حتى يقتله.
وكان بعض السلف يقول لأصحابه : انطلقوا حتى أريكم الدنيا ، فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول : انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم .
فصل في بيان حقيقة الدنيا والمذموم منها والمحمود
قد سمع خلق كثير ذم الدنيا مطلقًا ، فاعتقدوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خلقت للمنافع ، فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم والمشارب .
وقد وضع اللَّه في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها ، فكلما تاقت منعوها ، ظنًا منهم أن هذا هو الزهد المراد ، وجهلاً بحقوق النفس ، وعلى هذا أكثر المتزهدين ، وإنما فعلوا ذلك لقلة العلم ، ونحن نصدع بالحق من غير محاباة فنقول :
اعلم : أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان ، فيها حظ ، وهي الأرض وما عليها ، فإن الأرض مسكن الآدمي ، وما عليها ملبس ومطعم ومشرب ومنكح ، وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى اللَّه عز وجل ، فإنه لا يـبقى إلا بهذه المصالح ، كما لا تبقى الناقة في طريق الحج إلا بما يصلحها ، فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور به مدح ، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنف الشره وقع في الذم ، فإنه ليس للشره في تناول الدنيا وجه ؛ لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى ، ويشغل عن طلب الآخرة فيفوت المقصود ، ويصير بمثابة من أقبل يعلف الناقة ، ويرد لها الماء ، ويغير عليها ألوان الثياب ، وينسى أن الرفقة قد سارت ، فإنه يـبقى في البادية فريسة للسباع هو وناقته .
ولا وجه أيضًا للتقصير في تناول الحاجة ، لأن الناقة لا تقوى على السير إلا بتناول ما يصلحها ، فالطريق السليم هي الوسطى ، وهي أن يأخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك ، وإن كان مشتهى ، فإن إعطاء النفس ما تشتهيه عون لها وقضاء لحقها .
وقد كان سفيان الثوري يأكل في أوقات من طيـب الطعام ، ويحمل معه في السفر الفالوذج .
وكان إبراهيم بن أدهم يأكل من الطيـبات في بعض الأوقات ، ويقول : إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال ، وإذا فقدنا صبرنا صبر الرجال .
ولينظر في سيرة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وصحابته ، فإنهم ما كان لهم إفراط في تناول الدنيا ، ولا تفريط في حقوق النفس .
وينبغي أن يتلمح حظ النفس في المشتهى ، فإن كان في حظها حفظها وما يقيمها ويصلحها وينشطها للخير ، فلا يمنعها منه ، وإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم ، والزهد فيه يكون . اهـ من (( مختصر منهاج القاصدين )) .
فـــائــــدة :
قال ابن السماك الواعظ : هب الدنيا في يديك ، ومثلها ضُم إليك ، والمشرق والمغرب جاءا إليك ، فجاءك الموت ماذا في يديك ؟!
خــاتمـــة :
عن أبـي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه  : (( أعذر اللَّه إلى امرئ أخّر أجله حتى بلغ ستين سنة )) . رواه البخاري .
قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في (( الفتح )) ( ج11 ص 244 ) :
قوله : (( أعذر اللَّه )) : الإعذار إزالة العذر ، والمعنى أنه لم يـبق له اعتذار كأن يقول : لو مُدّ لي في الأجل لفعلت ما أُمرت به ، يقال أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العذر ومكنه منه . وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية ، والمعنى أن اللَّه لم يترك للعبد سبـبًا في الاعتذار يتمسك به . والحاصل أنه لا يعاقب إلا بعد حجة .
قوله ( أخر أجله ) : يعني أطاله ( حتى بلغه ستين سنة ) وفي رواية معمر : (( لقد أعذر اللَّه إلى عبد أحياه حتى يـبلغ ستين سنة أو سبعين سنة ، لقد أعذر اللَّه إليه ، لقد أعذر اللَّه إليه )) .
قال ابن بطال :
إنما كانت الستون حدًا لهذا لأنها قريـبة من المعترك ، وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ، فهذا إعذار بعد إعذار لطفًا من اللَّه بعباده حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم ، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة ، وإن كانوا فُطروا على حب الدنيا وطول الأمل ، لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليمتثلوا ما أمروا به من الطاعة ، وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية . وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل .
وأصرح من ذلك ما أخرجه الترمذي بسند حسن إلى أبـي سلمة بن عبد الرحمن عن أبـي هريرة رفعه : (( أعمار أمتي ما بـين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك )) .
قال بعض الحكماء : الأسنان أربعة سن الطفولية ، ثم الشباب ، ثم الكهولة ، ثم الشيخوخة وهي آخر الأسنان ، وغالب ما يكون ما بـين الستين والسبعين فحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط ، فينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة . وقد استنبط منه بعض الشافعية أن من استكمل ستين فلم يحج مع القدرة فإنه يكون مقصرًا ويأثم إن مات قبل أن يحج ، بخلاف ما دون ذلك . اهـ .
* * *

زهره المدائن
25-08-2010, 03:39 AM
You can see links before reply